لأسبوعبن متواليين استقطبت عناوين الصحف ووسائل الإعلام نبأ المساعي الحثيثة التي تبذلها الولايات المتحدة للحفاظ على قواعدها الجوية في آسيا الوسطى ومحاولاتها المستميتة لإبقاء أبوابها مفتوحة في وجه قواتها المنتشرة في المنطقة. ومن المتوقع أن يثير تصويت البرلمان القرغيزي بإغلاق قاعدة "ماناس" المزيد من الجدل. وقد سارع العديد من المحللين والمراقبين للوضع في آسيا الوسطى إلى تصوير ما يجري وكأنه لعبة شطرنج بين روسيا ذات النفوذ المتصاعد في المنطقة والعازمة على استعادة دورها السابق وبين الولايات المتحدة التي تسعى هي الأخرى إلى موازنة مصالحها في وقت يحاول فيه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، تعزيز الوجود العسكري لبلاده في أفغانستان. وهكذا يأتي القرار القرغيزي بإقفال القاعدة الجوية ليحرم الولايات المتحدة من طرق الإمدادات التي تزود قوات التحالف في أفغانستان بالمؤن ويضع المزيد من الضغوط على الإدارة الأميركية الجديدة، وهو ما يدفع العديد من المحللين إلى إرجاع الورطة الأميركية الحالية إلى الكرملين في إطار صراعه على النفوذ في آسيا الوسطى. وكسفير سابق لقرغيزستان لدى الولايات المتحدة بين عامي 1996 و2005 فإني أعرف أنه رغم انزعاج موسكو من وجود قاعدة عسكرية أميركية فوق التراب القرغيزي، إلا أن قرار بلد ما فتح أراضيه أمام دولة صديقة ومنحها الحق في إقامة قاعدة جوية ينطوي على مجموعة معقدة من الاعتبارات تتجاوز الشروحات التبسيطية التي تطالعنا في وسائل الإعلام هذه الأيام. فالاتفاق بين دولتين على إقامة قاعدة عسكرية يتطلب أولا وجود مصالح مشتركة، وعلينا ألا نتوهم بأن الدولة المضيفة لم تُدرج مصالحها الخاصة في الاتفاقية، أو أنها ستُستثنى من الفائدة. وهكذا عندما اتخذت قرغيزستان قرارها السيادي عام 2001 بفتح قاعدة جوية أميركية فوق أراضيها كانت تحركها مجموعة من الدوافع الموضوعية أولها التعاطف القرغيزي الواضح مع الولايات المتحدة عقب هجمات 11 سبتمبر، وقد اقتسمنا مع واشنطن ذات العدو الذي يهدد أمن واستقرار البلدين، لاسيما بعدما فقدت قرغيزستان خمسين من رجالها في مواجهات مسلحة، بين عامي 1999 و2001 مع الحركة الإسلامية في أوزبكستان، وهي المنظمة التي أعلنت تحالفها مع تنظيم "القاعدة". لذا جاءت الحرب الأميركية على التنظيمات في المنطقة منسجمة والمصالح الأمنية لقرغيزستان، ناهيك عن المنافع الاقتصادية الأخرى التي جنتها البلاد من تعاونها مع أميركا، وهي التي بحاجة ماسة إلى تنمية اقتصادية عاجلة. والحقيقة أننا لا نجادل أبداً في استفادة قرغيزستان من استضافتها القاعدة الجوية الأميركية فوق أراضيها، وبالنسبة لنا كان التطور الأبرز هو توجيه قوات التحالف ضربة مدمرة للحركة الإسلامية في أوزبكستان، لكن مع ذلك لم تسر الأمور كما كان متوقعاً وتخللت علاقات البلدين سلسلة من المنعرجات التي سرّعت في النهاية باتخاذ قرار الإغلاق. فالترتيبات الاقتصادية المرتبطة بالقاعدة الجوية ظلت غامضة في أحسن الأحوال، كما أن علاقات الدعم لم تسر على النحو المطلوب، ناهيك عن بعض الحوادث المتفرقة التي عكرت صفو العلاقات، مثل إطلاق النار على رجل قرغيزي عام 2006 ما أثار مخاوف من تصرفات الجنود الأميركيين وتعاطي واشنطن مع شركائها في آسيا الوسطى. ومع أن العلاقات بين الدول لا تخلو من مراحل جيدة وأخرى سيئة، لكن شيئاً واحداً ظل يزعجني في علاقتنا بالولايات المتحدة، فما أن أقامت واشنطن قاعدتها الجوية في قرغيزستان حتى لمست تغيراً جوهرياً في المواقف الأميركية. فقبل الحصول على الموافقة كانت واشنطن على الدوام توازن بين مجموعة من القضايا والأوليات التي يمكن إجمالها في الانشغالات الأمنية والتعاون الاقتصادي، ثم الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية، لكن ما أن أقيمت القاعدة الجوية وشرعت في العمل حتى تراجعت تلك الأوليات إلى الخلف لتظل القاعدة الجوية الاهتمام الأميركي الوحيد الذي يحظى بالأولية، وفي الأخير لم يخدم هذا التحول أياً من البلدين، بل مهد الطريق لإنهاء التعاون العسكري وإغلاق القاعدة الجوية. وبالرجوع إلى التاريخ نجد أن قرغيزستان كانت مسرحاً لانتفاضة شعبية واسعة عام 2005 أججتها المطالب الديمقراطية والرغبة في القضاء على الفساد المستفحل في البلاد، لكن تطلعات الشعب انحسرت بسبب الصعود المطرد للحكم الشمولي في قرغيزستان التي وإن كانت تظل أكثر ديمقراطية مقارنة مع باقي دول آسيا الوسطى، إلا أن تلك الفروق ما فتئت تتقلص في الآونة الأخيرة. فقد راودت القرغيزيين لفترة طويلة أحلام الديمقراطية والعيش في ظروف أفضل، لذا كانوا ينظرون بنوع من الارتياح لانتقادات أميركا للأنظمة الشمولية في المنطقة على أمل أن يقود ذلك إلى مزيد من الحرية والانفتاح، لكن الصوت الأميركي المدافع عن الديمقراطية والمنتقد للأنظمة السلطوية سرعان ما خفت بعد إقامة القاعدة الجوية إلى درجة أن دستور البلاد عُدل أكثر من مرة لتكريس السلطة الديكتاتورية دون أن تحرك واشنطن ساكناً. فكانت النتيجة أن تفاقم الفساد ولوحقت المعارضة السياسية وانعكس سوء الإدارة الاقتصادية في استفحال أزمة الكهرباء في بلد غني بالطاقة. ورغم ما أشعر به من أسى لمغادرة أميركا للقاعدة العسكرية، فإنه إذا كان إغلاقها يعني استعادة أميركا لصوتها المنافح عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، فلربما شكل ذلك بارقة أمل جديدة لهذه القصة الحزينة. باتيبيك عبد الرضائيف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سفير قرغيزستان السابق لدى الولايات المتحدة وكندا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"