يرى البعض أننا لا نميل في فكرنا الحضاري وقرارنا السياسي- بغض النظر عن ماهية التوجه، ومهما طال بنا الوقت- إلى حسم الخيار واتخاذ القرار. ونظل سابحين في عالم المثال واللغة، والمصطلح والخيال، والتمنيات والأيام الخوالي، حتى نستيقظ إنْ استيقظنا ذات يوم! كثير من الباحثين والمفكرين في بلادنا، يلاحظ "د. محمد سليم العوا"، مغرمون بالثنائيات والمقابلة بين المتضادات أو المتناقضات. كلام الباحثين والمفكرين ومقالات الصحفيين، يضيف المفكر الإسلامي المعروف، يزخر بعناوين مثل "الأصالة والمعاصرة، التراث والتجديد، الاستقلال والتبعية، التغريب والأسلحة". وتراثنا القديم مليء بهذه الثنائيات أيضاً مثل "الجبر والاختيار، الاجتهاد والتقليد، السلفية والمذهبية، والتنزيه والتشبيه". فكأننا قوم مغرمون بأن نضع في كل موضوع عناوين، يقبل بعضنا واحداً منها ويرفض الآخر. الرفض مطلق ودائم، والقبول أبدي لا يتغير. فهل هذا ثبات أم جمود؟ وهل هو دليل عمق تفكير ونضج قرار، أم تراه دوراناً في حلقة مفرغة؟ "د. العوا" يقول" إن هذا التأرجح الفكري لا يمت إلى الإسلام بصلة. فالإسلام عارض هذه الثنائية منذ اليوم الأول، و"خط بالقلم الأحمر" على جميع الأعراف والعادات والتقاليد والنظم التي وجدت قبله. "فالإسلام ليس صاحب هذه الفكرة الثنائية التي ترفض واحداً وتقبل الآخر. الإسلام صاحب فكرة جامعة تنشد الحكمة أنى كان مصدرها". كان د. العوا ضمن المتحدثين في "حوارات الفكر العربي المعاصر" بعمان - الأردن 1997-1998. وكان عنوان حديثه "الإسلام والديمقراطية".. وقد قلل العوا في بداية حديثه من أهمية السرد التاريخي لتطور الديمقراطية منذ أيام اليونان، لأنه "غير مفيد للمسلمين الذين يعانون في بلادهم كلها. وأكبر ما يعانونه افتقادهم حقهم في الشورى، التي هي موجودة في أصل تشريعهم، وفي الديمقراطية التي يتمتع بها الناس جميعاً، في كل الدنيا!". ويميز د. العوا بين اعتبار الإسلام مرجعية فكرية عقائدية دينية للدولة الديمقراطية المنشودة، واعتباره مرجعية حضارية، يقبلها المسلمون وغير المسلمين في المجتمعات العربية. ولكنه يشير إلى "وثيقة المدينة" و"العُهدة العمرية"، ولا يعالج المخاطر المعاصرة اليوم للإسلام السياسي على الأقليات وغير المسلمين. ولا ينظر إلى "التحول الإسلامي" في إطار الدولة الحديثة وصراع القوى فيها! ولقد رأينا بأعيننا وبشكل موثق ملحوظ، نماذج من هذه المخاطر والتعديات في لبنان ومصر والعراق والكويت والسودان وإيران وباكستان وإندونيسيا، وحتى في غزة بفلسطين تحت حكم "حماس"! وعن تأثير الإسلام ونفوذه في المسلمين يقول: "إن المؤمنين بهذا الإسلام يخضعون مختارين لأحكامه، ويلتزمون قيمة وينزلون عند أوامره ونواهيه، ويأتون واجباته طائعين، وينتهون عن منهياته غير خائفين. هذا واقع الكثرة العامة في هذه الأمة، ولا تغتروا بالأفراد القلائل أو الأعداد المحدودة التي نراها في المدن الكبرى مثل القاهرة ودمشق انظروا إلى ريفنا وصحارينا وقرانا حيث الكثرة الكاثرة من أهلنا، هؤلاء هم المسلمون كما يعرف الناس المسلمين منذ القدم وحتى الآن، لم يتغير في إسلامهم شيء، وهم لا يسمعون ولا يطيعون إلا لمن يقودهم بهذا الإسلام أو يبشرهم به أو يعلمهم إياه". ويقول د. العوا، "إن الإسلام لم يعامل غير المسلمين معاملة الدرجة الثانية". ويقول: "لقد ضمن الإسلام لهؤلاء المواطنين غير المسلمين حقوقهم كاملة في العبادة والعقيدة والتنظيم الاجتماعي للأسرة والعائلة، بل التنظيم الديني لمؤسستهم الدينية وفق عقائدهم ودون تدخل من أحد". وتطمينات د. العوا لا تخلو للأسف من المثاليات والتمنيات. فإذا كان المسلمون أباً عن جد، وهم مسلمون! يعانون تحت حكم جماعات الإسلام السياسي شيعة وسنة، فكيف بغير المسلمين؟! الدكتور العوا، يتصور أنه عندما يقام "النظام الإسلامي"، فإن الكلمة ستكون "للإسلام كما هو"، لا للإسلاميين كما تحتم مصالحهم السياسية، ومآل صراعاتهم وتوازن القوى بين جماعاتهم وأجنحتهم، ومتشدديهم ومعتدليهم! فهذا ما رأيناه في أفغانستان وإيران وباكستان والسودان ولبنان وفلسطين والصومال، وما نراه واضحاً في جماعات "الاخوان المسلمين" في مصر والأردن وسوريا والعراق والكويت والسعودية واليمن وشمال أفريقيا. النقطة الأساسية والمحورية، التي لا يلتفت إليها دعاة الحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة، هي استحالة التفريق بين "النظام الإسلامي الشرعي" واحتمالات بل حتمية هيمنة الأحزاب الإسلامية ورجال الدين المنتفعين ودكتاتورية الجماعات الإسلامية على مقدرات الدول ومؤسساتها. كيف يمكن أن "تطبق الشريعة" في مصر وسوريا والأردن والكويت مثلاً، دون أن يهيمن "الاخوان" أو السلف أو "التحرير" أو "حزب الله"أو أي حزب إسلامي آخر، على إدارة الدولة والإعلام والتعليم والخدمات والثقافة والسياسة الخارجية، وتدريجياً المال والاقتصاد والاستخبارات لملاحقة المعارضة؟! هل ستفكر هذه الجماعات عندها بتطبيق "الإسلام الصحيح"، وبالتسامح والاعتدال والوسطية، وبالشورى والديمقراطية و"الإسلام الحضاري"، وباليهود في الأندلس والنصارى في دمشق وبغداد، أم أن ما ستكون له الأولوية هو تثبيت أركان حكمهم وتعزيز سلطتهم وترسيخ نفوذهم؟ إن الأفغان والباكستانيين مثلاً من اتباع المذهب الحنفي، هل التفتت جماعة "طالبان" إلى وجوه التسامح في هذا المذهب، واعتماده على مدرسة الرأي، وتفقّد الإمام أبي حنيفة لجاره السكير الذي كان يزعجه، كما في القصة المعروفة؟ ويغلب المذهب المالكي على أهل السودان وشمال أفريقيا، فهل أقيمت السياسة السودانية بعد انقلاب البشير، وإقامة النظام الإسلامي وسن الدستور الإسلامي، على السياسات التي يمكن أن تستنبط من عموم الإسلام وفقه الإمام مالك؟ ولو كان شيعة العراق أو أهل السنة فيها انخدعوا بالشعارات الدينية والمذهبية بعد سقوط النظام السابق عام 2003 وصدقوا كل تلك الوعود والأقنعة التي استخدمها الإرهابيون باسم العدالة و"الشريعة" و"الخلافة" و"الإمامة" لغرقت البلاد في دماء أهل المذهبين، ومعهم النصارى والصابئة وغيرهم! إن للدين إذاً مبادئه ومعطياته، وللسياسة الدنيوية والصراعات الحزبية والاقتصادية والمصلحية ضروراتها! وهذا ما يعرفه كل مسلم عبر تاريخه، منذ انتقال أمر الحكم من الخلافة الراشدة إلى الدولة الأموية ثم العباسية فالعثمانية، حتى وقوعنا اليوم أسرى بيد أحزاب الإسلام السياسي؟! وغدا الإسلام نفسه، كما يفهمه د. العوا أو يتمناه غيره، أسير مطامح الأحزاب الإسلامية وتطلعات زعاماتها ومقالات صحفييها وكتابها ودعاتها. ويتحدث د. العوا بصدق وحرارة عن ملايين المسلمين في "الريف والصحارى والقرى"، وعن مدى تمسكهم بالعقيدة الإسلامية وأهداب الشريعة. وهذا حق، ولكن هل تلتفت الأحزاب الإسلامية إليها، بعد أن تقع مجتمعاتنا بين براثنها؟ هل يهم هذه "الأنظمة الإسلامية" حقاً إن أمسكت بالسلطة، أن تنتقل بالمجتمع الأفغاني أو السوداني أو الباكستاني أو الإيراني أو المصري، خلال عشر سنوات أو عشرين مثلاً، إلى مصاف أي دولة صناعية متقدمة، من دول العالم؟ هل لديها فعلاً سياسات اقتصادية تضاعف مستويات الدخل، وتفتح المجال للاستثمار، وتضع حداً للفقر والبطالة وتردى حالة الخدمات؟ هل تريد أحزاب "الإخوان" والسلف والتحرير وجماعات السنة والشيعة، "إقامة دولة عصرية ثرية حديثة"، أم أنها تريد أكثر وأول ما تريد، إقامة "نظام إسلامي شرعي"، تلغي فيه كافة "القوانين الوضعية"، وتمحى في الدولة كل ترسبات "الغزو الثقافي" و"آثار الجاهلية الغربية" و"الطواغيت"!؟ هذا "النظام الإسلامي" الذي يداعب خيال الإسلاميين منذ قرن أو نصف قرن، نظام لا يعترف بالواقع الدولي، ولا يكترث بمطالب ومصالح ملايين الفقراء في الريف والصحارى والقرى وحتى المدن الإسلامية. إنه جحيم آخر ستحترق فيه آمال وأحلام فقراء المسلمين، وتزداد بسببه مجتمعاتهم تعاسة، وتتراجع مستويات المعيشة في ديارهم، وبخاصة في القرى والأرياف والبوادي، لأن معظم الصراع سيدور في المدينة ونخبها.أما عن البطالة، والندم، وخيبة الأمل... فلا تسل!