في مقال سابق لي تحت عنوان "كن غبياً"، تعرضت لحالة البعض الذي يعتقد أنه ذكي، لكنه في حقيقته يجسد نمطاً من الشخصية الالتوائية التي لا تعرف ما تريد أو ما تسطيع أن تفعل. بشكل عام، سمعت الكثير من التعليقات، لعل أخطرها أنني لما زرت في الفترة الأخيرة أكثر من مؤسسة علق بعض الموظفين فيها ساخراً أو جاداً بقوله "دكتور: أنت كتبت هذا المقال عن مديرنا"، لكني أقول من دون أي تردد لا لأني أصلاً لم أتعامل مع مديركم. ما أزعجني في هذا الأمر كثرة من سمعت منهم هذا الكلام، ولن أعلق على هذه الأمر؛ لأنّ في عقل القارئ الكريم مجالاً كي يشاركني خواطره وأفكاره. اليوم أكتب عن صورة مغايرة من الناس، نعتقد أنهم أغبياء أو لا يفهمون، كما نقول باللهجة الدارجة، وهم ليسوا كذلك لكنهم ليسوا في المكان المناسب لهم، لذلك تلبسوا لباس الغباء وهم منه براء. في الدراسات الحديثة في علم التفكير لم يعد مقبولاً أن نقول عن إنسان ما إنه غبي كما كنا نعتقد في السابق، وكما كانت المدارس تصنف التلاميذ إلى أذكياء، وهم عادة يجلسون في مقدمة الصف، ومتوسطي الذكاء، وهؤلاء هم الأغلبية، وأغبياء، وهم الذين يجلسون آخر الصف عادة، مع الاعتذار لكل من تعود أو يعجبه هذا المكان، لكن هكذا اعتاد الناس في مدارسنا، فكان السؤال التربوي القديم عن درجة الذكاء، لذلك صُنف الناس كما ذكرت، وذلك بالرغم من أن نتائج المدارس في حقيقتها لا تقيس درجة الذكاء بقدر ما تقيس قوة الذاكرة قصيرة المدى. في الفترة الأخيرة، تغير السؤال من درجة الذكاء إلى نوعه، بلغة أبسط لا أقول إن فلاناً ذكياً بطريقة مطلقة، لكنني أقول إن هذا الإنسان ذكي في قضية ما ومتوسط الذكاء في أمر آخر، وربما ضعيف جداً في أمور أخرى. هذا التصنيف الجديد مريح في تصوري وأكثر عملية مما كان قبله، فأصبح من المقبول اليوم أن يقول الإنسان عن نفسه إنه ليس غبياً، لكنه في مكان غير مناسب له، مثل الطلاب في الجامعة عندما ينتسبون إلى تخصصات لا تتناسب مع ذكائهم، فيفشلون في الجامعة، ويعتقد البعض أنهم أغبياء، لكن هذا الإنسان الذي فشل في الجامعة ينجح كل النجاح في حياته الخاصة وفي العمل الذي طوره بنفسه. السبب اليوم أصبح معروفاً، وهو أن التخصص الذي التحق به في الجامعة، كان سبب فشله وليس قدراته العقلية، والعكس صحيح في بعض الحالات، نجد طلاباً تخرجوا في الجامعات بتقدير امتياز لكنهم فاشلون في بيئة العمل التي تتطلب اليوم جهداً جماعياً؛ لأن هذا الإنسان ليس لديه الذكاء الاجتماعي، الذي يعينه على العمل مع الفريق، فهو ناجح بنفسه فاشل مع غيره. ما سبق يقودنا كأفراد ومؤسسات إلى مراجعة الأدوار التي يقوم بها بعض الموظفين والذين نتهمهم في أوقات كثيرة بأنهم أغبياء أو غير قادرين على التطور ومواكبة متطلبات سوق العمل المعاصرة، نقف مع أنفسنا كمسؤولين وأفراد كي نقول أولًا ما هو ميدان ذكاء هذا الإنسان؟ وهل نسبناه إلى المكان الصحيح في عمله؟ إذا تمكنا من معرفة ذكاء الموظف، ومن ثم ربطه بالموقع المناسب له في العمل، فإن النجاح هو الأقرب من الفشل في هذه الحالة. دعوني أسق لكم مثالًا على ذلك، لو أن موظفاً تخصص في الحاسوب، وطُلب منه العمل في مختبر مغلق، لكن هذا الإنسان ذكي اجتماعياً، بلغة أبسط يجيد بناء العلاقات الاجتماعية: يحب الناس وهو محبوب لديهم، في الغالب فإن وجوده في المختبر يعد سجناً لتفكيره، لذلك سيفشل في عمله ويتململ منه، وتأتيه الإنذارات؛ لأنه لا يستطيع البقاء فترات طويله في المختبر، هذا الإنسان لو نقلناه إلى قسم العلاقات العامة، أو خدمة العملاء، وطلبنا منه وهو يتعامل مع الناس أن يطور لنا برنامجاً إلكترونياً في خدمة المتعاملين، فإنه سيكون أسعد إنسان؛ لأنه استثمر ذكاءه وتخصصه، لذلك اختم هذا المقال: بأنك ذكي ولكن!