منذ تسلمها السلطة تعترف الإدارة الأميركية الجديدة بأن الوضع في العراق لا يمكن مواجهته عن طريق التمسك بمقولة "البقاء حتى إتمام المهمة"، فهي ترى تدهور الأوضاع العراقية، وهي تعلم تململ الشارع الأميركي من بقاء القوات في العراق ومن الأموال التي تصرف هناك. وقد اتضح ذلك من خلال رفض الناخب الأميركي للحزب "الجمهوري" وسياساته في الانتخابات الرئاسية والنصفية الأخيرة؛ لذلك فإن الأوضاع السياسية الجديدة في الولايات المتحدة جعلت من المحتم على الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة أوباما، أن تعلن لنفسها عن مسارات جديدة، ولكن الخيارات محدودة. العراق اليوم يجلس على منعطف لمنظومتين من الصراع: الأولى داخلية تخص البلد ذاته نتيجة لفراغ القوة الذي نشأ عن الإطاحة بنظام حزب "البعث"، ومن ثم عدم تمكن الولايات المتحدة حتى الآن من إعادة الأمن والقانون والنظام والسلم، والثانية إقليمية سببها بروز قوة الشيعة في إيران، الأمر الذي أثر على المنطقة برمتها، وكنتيجة فإن أية سياسة جديدة للولايات المتحدة حول العراق تحتاج إلى النظر للقضايا الداخلية والإقليمية. العراق يبدو من الخارج بمشهد الدولة الممزقة التي ليس لها سلطة مركزية فعالة، فحكومة الوحدة الوطنية منقسمة على نفسها وضعيفة؛ لأنه لا يمكن لحكومة من القيادات المعادية لبعضها بعضاً وتمارس العنف ضد بعضها بعضاً أن تكون قوية. ومما يفاقم من الأوضاع المتردية أن النظام الإداري لم يتمكن بعد من التعافي من انهيار ما بعد الغزو، وقوات الشرطة ببساطة هي عبارة عن تجميع عشوائي لرجال ميليشيات يتلقون أوامرهم من القيادات المختلفة التي ينتمون إليها، والجيش العراقي يبدو إلى حد ما قريب من أن يصبح مؤسسة وطنية، ولكن ذلك بسبب وجود ضباط وأفراد من قوات الولايات المتحدة ضمن وحداته، وفي فراغ القوة هذا تنتشر الصراعات الدامية، وتبرز مظاهر لحروب أهلية بين السنة والشيعة وبين العرب والأكراد، وهلم جرا. في عهد الإدارة الجديدة، يدور جانب من النقاش الخاص بحل المعضلة العراقية حول وجهتي نظر مختلفتين تماماً: الأولى هي تشكيل حكومة عراقية قوية، ربما أقل ديمقراطية وأكثر شمولية من القائمة حالياً، ولكنها قادرة على فرض النظام، والثانية هي تقسيم العراق كأمر واقع. فكرة الحكومة القوية ربما تكون ضرباً من الوهم؛ لأنه في بلد يبتلى بجماعات مسلحة وينتشر حمل السلاح بين مواطنيه بطريقة عشوائية، لا يمكن أن تكون الحكومة قوية دون وجود قوات أمن تستطيع أن تتفوق على جميع معارضيها، وقوات الأمن هذه غير موجودة الآن في العراق. تقسيم العراق يعد احتمالاً وارداً، وربما يكون من الصعب منع حدوث ذلك إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه، فالصراعات العديدة التي يصعب فهم أسبابها على ساسة الدولة الغازية، تقف حجر عثرة أمام تقوية السلطة المركزية وتجعل من الصعب على المناطق المنفصلة أن تكون مستقرة وخالية من العنف المذهبي والطائفي. الفرق هو أن أية سلطة مركزية جديدة وقوية تحتاج إلى وقت طويل لإيجادها، وعندما تجهز سيكون من واجبها طرق منظومة واسعة من المشكلات في الوقت نفسه لكي تجد حلولاً لها ترضي الجميع، وهذا أمر صعب إن لم يكن مستحيلاً، وفي الوقت ذاته تكون الحلول الانفصالية جاهزة مما يسهل تطبيقها في منطقة بعد أخرى. ولأن العراق على مفترق طرق منظومتين من الصراعات، فإن الحل يقع فيما وراء قدرة الولايات المتحدة على إيجاد الحل وتنفيذه أو فرضه منفردة. لقد حاولت الإدارة السابقة أن تفرض حلولها الخاصة للمشكلة الداخلية عن طريق تشكيل دولة عراقية جديدة عبر عملية ديمقراطية وإعادة بناء قوات الأمن والشرطة، ولكنها فشلت؛ لأنها عملت على ابقاء الفاعلين الإقليميين خارج الصراع وخارج نطاق الحلول المقترحة، وفشلت في ذلك أيضاً. لقد حاولت الولايات المتحدة إقناع أقطار عدة دعم جهودها في العراق، ولكن حتى القلة التي استجابت قدمت مساعدة رمزية فقط. الحل الممكن أمام الإدارة الجديدة يمكن أن يأتي من خلال التوافق فقط، أي التوافق بين الإدارة الأميركية والشعب الأميركي والشعب العراقي وجميع الفاعلين الإقليميين المحيطين بالعراق. الأقطار المجاورة للعراق تنظر إلى التداخل في الشأن العراقي كضرورة مطلقة وليس خياراً، وربما أن هذا هو ما تتجاهله الولايات المتحدة حتى الآن في سياستها تجاه العراق، وكلاعب خارجي يوجد لديها خيار في البقاء في العراق أو الانسحاب منه، وبغض النظر عما تختاره الإدارة الجديدة، فإن من الواضح أن دورها هناك سيكون دور أحد اللاعبين ضمن مجموعة منهم يحاولون حماية مصالحهم وسط منظومة من الصراعات عوضاً عن أن تكون القوة المهيمنة التي يمكنها إعادة تشكيل المنطقة لكي تناسب مصالحها وحدها.