قبل عيد ميلاد محمود أمين العالم، السابع والثمانين، بعشرة أيام أقامت الجمعية الفلسفية المصرية تأبيناً في ندوتها، بحضور لفيف من أساتذة الفلسفة في مصر والوطن العربي والعالم الإسلامي والغرب (هولندا وإيطاليا)، وبحضور ابنته التي شكرت في النهاية الجمعية والمتحدثين. لقد عرفت رفيق العمر محمود أمين العالم عام 1954، أي منذ أكثر من نصف قرن. وهي سنة حاسمة في تاريخ الجامعة المصرية وتاريخ الثورة المصرية في يوليو 1952. فقد وقع الصدام بين "الضباط الأحرار" وكافة الاتجاهات الفكرية والسياسية الوطنية التي كانت موجودة قبل الثورة والتي حملت لواء النضال الوطني في مصر في الأربعينيات. وتم تطهير "الجامعة" من عشرات الأساتذة أصحاب المواقف (لويس عوض، توفيق الشاوي، عبدالعظيم أنيس، محمود أمين العالم). وفرض نظام الفصلين الدراسيين لإشغال الطلبة بالامتحانات بعيداً عن المظاهرات. وكانت الجامعة في ذلك الوقت تدافع عن الديمقراطية، وتنادي بضرورة عودة الجيش إلى الثكنات. وكانت أقرب إلى محمد نجيب رئيس البلاد منها إلى عبدالناصر وزير الداخلية الذي أمر بإطلاق النار على الطلاب، وأعدم عبدالقادر عودة فيما يسمى بأزمة مارس 1954. عرفت الفقيد في هذا الظرف الاستثنائي في تاريخ مصر. وكان يساعد طلاب قسم الفلسفة على قراءة النصوص الفلسفية باللغات الأجنبية، وهو يعمل بالمكتبة. وعلى مدى صحبة أكثر من نصف قرن في مصر أو في فرنسا أو في عديد من المؤتمرات العربية والدولية التي كنا نشارك فيها معاً عرفت الفقيد، وخبرته عن قرب، بالإضافة إلى قراءة أعماله. ويمكن إجمال شخصيته في عشر سمات رئيسية: السمة الأولى: العالِم. فهو اسم على مسمى. اختار موضوع رسالته للماجستير "فلسفة المصادفة" في فلسفة العلم. فكان يرى أن العلم هو سبيل النهضة. وكان أحد الاختبارات المطروحة في عصر النهضة، يمثله فرح أنطون وشبلي شميل ونقولا حداد وسلامة موسى وإسماعيل مظهر وزكي نجيب محمود. في مقابل اختبارات أخرى، الإصلاح الديني عند الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين والكواكبي وعبدالحميد بن باديس ومالك بن نبي، أو التنوير الذي كان اختيار الطهطاوي وعلى مبارك وطه حسين ومحمد حسين هيكل والعقاد وخير الدين التونسي. والجامعة هي مكان العلم، التي تحمل لواء المنهج العلمي. وفي كل دراساته الأخرى الفلسفية أو التراثية أو الأدبية يطبق المنهج العلمي ضد الخطابة والإنشاء، والجدل والسجال، كما فعل ابن رشد في تمييزه بين أنواع الخطاب الثلاثة: الخطابي والجدلي والبرهاني. وكان وهو عضو بالجمعية الفلسفية المصرية، أو وهو مقرر لجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة، لا يرضى إلا بالمنهج العلمي وسيلة للحوار من أجل الوصول إلى هدف مشترك. وهو الاختيار نفسه لرفيق حياته عبدالعظيم أنيس الذي توفي في الشهر نفسه. فقد اختار الرياضيات بداية والمنهج الرياضي طريقاً. والتجربة الطبيعية والعقل الرياضي وجهان لعملة واحدة. والثانية: الوطني. والدفاع عن استقلال الأوطان ضد الاستعمار بكل أشكاله والعولمة آخرها والغزو المباشر للعراق وأفغانستان عود إلى أشكاله الأولى. فمنذ الأربعينيات تكون جيل لا يعرف إلا القضية الوطنية وإجلاء القوات البريطانية عن ضفاف النيل وقناة السويس. ولم يكن شعار "الاستقلال التام أو الموت الزؤام" مدعاة للسخرية كما أصبحت الحال فيما بعد عندما انقلبت الثورة المصرية على نفسها في الجمهورية الثانية. والثالثة: الاشتراكية. فقد شعر هذا الجيل بمدى سيطرة الإقطاع على الاقتصاد والسياسة ممثلاً في طبقة النصف في المئة التي كانت تملك كل أراضي مصر ومصانعها وقطاعاتها الاقتصادية الرئيسية. شعر بالتفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، بين من يملكون كل شيء ومن لا يملكون شيئاً. فاختار الاشتراكية لتحقيق العدالة الاجتماعية خاصة وقد رفعت الثورة شعار تذويب الفوارق بين الطبقات. كون جبهة من اليسار الوطني، والماركسية أحد فصائله. أما العدالة الاجتماعية، فهو الهدف الذي يلتقي عنده الجميع سواء الطليعة الوفدية أو غيرها. والسمة الرابعة: الثقافة الوطنية. وتضم توظيف الثقافة العالمة النخبوية العلمية والفلسفية والسياسية لصالح الوطن والمجتمع. فالمثقف الوطني هو الجامع للعلم وللوطن، وهو الحامل لهموم الفكر وهموم الوطن. ومعارك الثقافة هي معارك التقدم والتخلف، معارك التراث، والوعي والوعي الزائف و"قضايا فكرية". والثقافة الوطنية تجمع بين الجامعة والصحافة. وعندما كان رئيساً لمؤسسة "أخبار اليوم" أنشأ الملحق الأدبي وجذب إليه مجموعة من شباب الأدباء والمفكرين في الستينيات. وعندما أصبح رئيساً لدار الكتاب العربي، تحول النشر العالم إلى نشر شعبي. وعرف الناس عيون أعمال الأدباء والمفكرين من خلال وزارة الثقافة. أصبحت الثقافة للجميع، والعلم للجميع، والنشر للجميع. والخامسة: المصرية. وكان يفخر بأنه مصري بل صعيدي من أعماق مصر. به روح ابن البلد. ويعشق الأمثال العامية وإعادة تلوينها طبقاً لظروف العصر مثل "شاغبوا تصحّوا". وكان أول كتاب عرف به وأصبح حدثاً ثقافياً في مصر هو الذي وضعه مع رفيقه عبدالعظيم أنيس "في الثقافة المصرية". وهي مصرية مفتوحة على الوطن العربي، مصرية قومية. فمصر هي الدولة القاعدة، هي الوطن المركزي. لذلك انضم إلى الناصرية التي جسدت هذه المصرية القومية. وكان يفخر بأنه ينتمي إلى أسرة إسلامية وتربى على الثقافة الإسلامية. فجمع في شخصه بين الدوائر الثلاث التي تتفق عليها كل الاتجاهات الوطنية، مصر والعروبة والإسلام. والسادسة: النقد الأدبي. ولا فرق بينه وبين النقد الفني والنقد الثقافي والنقد الاجتماعي والنقد السياسي. فهو جزء من كل. والنص الأدبي مرآة تعكس ليس فقط المستوى الفني بل أيضاً المستوى الثقافي والأوضاع الاجتماعية والسياسية كما هي الحال عند إدوارد سعيد. ولا فرق بين النص الأدبي والنص الفلسفي إلا في الصياغة والبعد الجمالي فى النص الأدبي. والموضوعات واحدة الخيال والصورة الفنية والمجاز. بل إن النص الأدبي أحياناً يكون أقدر على التعبير عن الحقيقة من النص الفلسفي بما لديه من قدرة على التصوير والإيحاء واكتشاف آفاق جديدة للنص. والسابعة: الشعر. فالفقيد شاعر، فنان مبدع له "أغنية للإنسان". يتذوق الحقيقة ولا يدركها فقط. فالحقيقة جمالية وليست منطقية نظرية أو طبيعية حسية كما هي الحال عند الرومانسيين الألمان هيجل وشلنج وكما هي الحال عند هيدجر من المعاصرين. فماهية الشعر هي ماهية الحقيقة. وكلاهما انكشاف مثل طريق الغابة والضوء الذي يتخلل الأغصان المتشابكة ويسقط على الأرض فينير الطريق. والفيلسوف هو الشاعر، والشاعر هو الفيلسوف كما كانت الحال عند أفلاطون. والمنطق قتل للحقيقة وإجهاض لوسائل إيصالها. والسمة الثامنة: الإنسان العادي. لا يستطيع أحد إلا أن يحبه. فهو ألوف. يتألف ويؤلف. يوحد بين القلوب. لا تفارق الابتسامة وجهه. توافقه قبل أن تسمعه. لذلك كان أهلًا للحوار الوطني بين الاتجاهات المتعددة كي تتلاقى على الحد الأدنى من المصلحة الوطنية. لا تختلف معه إذا كنت إسلامياً أو قومياً أو ليبرالياً. فلا ضير في التعددية النظرية ما دامت المصلحة الوطنية واحدة. والتاسعة: الواقعية. فعلى رغم أنه كان من المعارضة إلا أنه لم يقطع مع الدولة. ولا يضيره أن يعمل في مؤسساتها ما دام يحافظ على ضميره وموقفه. ففي مصر لا تقع خصومة بين الدولة والمواطن؛ لأن الدولة هي عماد التحديث. محمد على باني مصر الحديثة، وعبدالناصر باني مصر المعاصرة. وقد عمل الطهطاوي رائد النهضة المصرية الحديثة مع محمد علي، وعمل الماركسيون الوطنيون مع عبدالناصر. دافعوا عن مبادئه وظلوا أوفياء له بعد الانقلاب عليه في الجمهورية الثانية. الخلاف في الرأي بين المواطن والدولة لا يعني الخصومة والقطيعة بينهما. والعاشرة: النموذج. إذ يظل الفقيد باقياً بذكراه، والنموذج الذي يمثله المثقف الوطني العالم الملتزم، وهو ورفيق حياته عبدالعظيم أنيس ضد المثقف الحرفي، والعالم المهني، والمواطن المنعزل الذي لا ينشغل بأمور الناس. ومن لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم. يبقى نموذجاً لجيل أتى من بعده ضاعت رؤيته، وغم طريقه، وعكف على مشاكله يحلها حلولًا فردية وليست حلولاً عامة. جيل يريد الهجرة خارج البلاد بطريقة شرعية أو غير شرعية بدلًا من أن يموت في الداخل يأكله الحوت في البحر أو تقبض عليه سلطات الهجرة على السواحل. جيل يكفّر أو يخون والوطن له ليس إلا سجناً كبيراً، يقتل أو ينتحر. يفضل الموت على الحياة. ومع ذلك يظل النموذج قائماً في الخيال يتراءى من أعماق التاريخ لعله يكون طوق نجاة للغارقين.