لبناء الاقتصاد الأميركي على المدى البعيد وتبني رؤية شاملة تتجاوز الاحتياجات الآنية، لا بد من الاستثمار في المنظومة التعليمية وإيلائها الاهتمام الذي تستحقه في عالم أصبحت مجتمعاته الحية قائمة على إنتاج المعرفة. وإدراكاً منه لهذا الدور المتنامي للتعليم في تعزيز الأداء التنافسي للولايات المتحدة على الساحة العالمية، جاءت دعوة الرئيس أوباما، في إطار خطته للإنعاش الاقتصادي، لضرورة الاستثمار في بناء المدارس والمختبرات وتجهيز المكتبات وإعداد النشء بكل ما يحتاجونه من معرفة ومهارات تؤهلهم لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين وزيادة حجم التمويل الموجه للبرامج التعليمية. لكن للتعامل مع تحدي التعليم في أميركا وانتهاز الفرصة الحالية التي تتحيها إدارة أميركية متفهمة ومستعدة للتجاوب مع الإشكالات التعليمية، علينا بذل جهود أكبر بالانتقال من مجرد الاستثمار في البناء والتشييد إلى مراجعة شاملة لمعايير التعليم في الولايات المتحدة. فأنا أستطيع من مقر مكتبي في واشنطن أن أرى أبعد من مبنى الكونجرس، أو باقي الهيئات الحكومية الأخرى التي تزدحم بها العاصمة، كما أني أستطيع عن طريق القطار الوصول بسرعة إلى ماريلاند وفرجينيا المجاورتين، لكن رغم القرب الجغرافي لتلك الولايات وتشابه قوانينها، تتبى المناطق التعليمية في الولايات الثلاث معايير مختلفة لما يجب على طلبة المدارس تعلمه، أو اكتسابه من كفايات تعليمية بسبب المعايير المتنوعة وتباينها الشديد بين كل ولاية وأخرى، والنتيجة هي 51 منهجا تعليمياً مختلفاً من حيث المحتوى والجودة. فنحن عندما نتحدث عن التعليم في الولايات المتحدة يجب ألا نغفل الجوانب التي يمكن الإجماع حولها للوصول إلى قواسم مشتركة تؤسس لنظام تعليمي جديد، وستكون البداية بالاتفاق على معايير وطنية تقرها المدارس الأميركية ويخضع لها الطلبة والمدرسون على حد سواء، لاسيما أن هناك العديد من القرائن في المجال البيداغوجي تشير إلى أن المعايير المشتركة والصارمة تؤدي بالطلبة إلى تحقيق مستويات عالية من المعرفة وفي أحيان كثيرة التفوق في التحصيل الدراسي. فالبلدان التي تتفوق على الولايات المتحدة في أداء طلبتها خلال الاختبارات الدولية وتحقق التميز، كلها تتبنى معايير وطنية موحدة وتعتمد على مناهج واضحة يتم بموجبها تدريب المدرسين للارتقاء بالمستوى التعليمي وتحفيزهم على العطاء. فمثلا استطاعت ولاية ماساتشوستس التي تبنت معايير تعليمية صارمة في مدارسها ورفعت سقف المطلوب من الطلبة والمدرسين في التحصيل المعرفي، أن تحقق نتائج جيدة في الاختبارات الدولية مقارنة مع الدول المشهود لها بالتوفق في مجالات الرياضيات والعلوم. وفي الإطار نفسه أحرز الطلبة في ولاية مينوسوتا المرتبة الخامسة عالمياً في الاختبارات الدولية للرياضيات عندما أقرت مدارسها معايير صارمة للارتقاء بالمستوى المعرفي لطلبتها، غير أن المعايير الأكاديمية في باقي الولايات الأميركية تظل بعيدة عن المقاييس الدولية بسبب تباينها الشديد وانقسامها المفرط. ولنا أن نتخيل الضجة التي ستثار في عالم الرياضة لو أن فريقين تجمعهما لعبة معينة، لكن تفرق بينهما القواعد، بحيث تكون متساهلة مع أحد الفريقين ومتشددة مع الفريق الآخر، وهو ما يخرج بلا شك عن المنافسة الشريفة والروح الرياضية. لكن الجدل يختفي تماماً عندما نتطرق إلى نظامنا التعليمي الذي يكاد يعاني من المعضلة ذاتها في تضارب المعايير الأكاديمية من ولاية لأخرى، الأمر الذي أدى إلى بروز ظواهر غير صحية في منظومتنا التعليمية تضر بمستوى الطلبة وبتنافسيتهم على الصعيد الدولي. والأدهى من ذلك أن الحكومة الفدرالية لا تعارض هذا التنوع غير الصحي من خلال ترخيصها للولايات المختلفة بتبني معايير أكاديمية خاصة في إطار قانون "لا للتخلي على الأطفال"، حتى لو كانت تلك المعايير أقل في المستوى من ولايات أخرى. فهل نترك مصير الطلبة في تعلم الجبر على سبيل المثال، والطريقة التي يدرس بها، لكل ولاية تحددها كما تشاء؟ من نافلة القول إن هذا النموذج يعوزه المنطق بالنظر إلى الحركية الكبيرة التي يتمتع بها المجتمع الأميركي المعاصر. ومن المجحف أن يتأرجح الطفل الأميركي بين معايير أكاديمية مختلفة كلما انتقل أهله من ولاية إلى أخرى. وأنا لا أدعو هنا إلى فرض معايير فدرالية تنظم تدريس كل مادة على حدة، ولا أقصد أن تفقد الولايات والمناطق التعليمية صلاحيتها في الإشراف على وضع المناهج التي تتناسب مع الظروف الموضوعية لكل منطقة، وبالطبع لا أدعو أيضاً إلى إرغام المدرسين على اتباع منهج خاص ومغلق معد سلفاً ليس لهم فيه أي مساهمة. لكن في نفس الوقت ونحن نركز على الطابع المحلي لقضايا التعليم التي يجب أن تبقى من اختصاص الهيئات المعنية، علينا ألا ننسى أن هناك مجموعة من المعارف الثابتة التي يتعين على الطلبة الأميركيين الاطلاع عليها، وعلى واضعي المناهج الدراسية الاسترشاد بها. وفي هذا السياق، وللخروج من هذا المأزق، أقترح إنشاء هيئة وطنية تضم جميع الفاعلين والمعنيين بالقطاع التعليمي، من مربين ومسؤولين منتخبين وقادة المجتمع وخبراء في علوم التربية، لصياغة أفضل المعايير الأكاديمية وتوحيدها لتغدو نموذجاً مقبولاً يتم العمل به على الصعيد الوطني. ومهما تباينت الآراء حول ما يشكل معايير وطنية عامة في المجال الأكاديمي، فإني متؤكدة من أن معظم الناس متفقون على وجود مضمون أكاديمي يتعين تلقينه لجميع الأطفال في المدارس الحكومية الأميركية طبقاً لأعلى المعايير وأفضلها. راندي وينجارتن رئيسة الفدرالية الأميركية للمدرسين ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"