لا توجد أوهام؛ فمعظم "المؤسسات"، وربما جميع الدول وكثير من الأفراد أيضاً، يتعاطون منطق "الكيل بمكيالين" أو "إزدواجية المعايير". بل إن البعض يكيل بأكثر من مكيالين، بثلاثة أو أربعة وربما بعشرة. والمثل الصارخ والمتكرر على هذا يتجلى عندما يتابع المرء السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. عندها يكتشف، وبدون عناء، أن هناك استراتيجية أميركية في الشرق الأوسط، وسياسات تكتيكية لتحقيق هذه الاستراتيجية، وكلاهما لا علاقة له بالمثل والمبادئ الأميركية. والمقصود بازدواجية المعايير أو الكيل بمكيالين حقيقة أن القوى العظمى، وبالذات الولايات المتحدة في حالتنا، تتعامل مع العرب ودولهم بشكل مغاير كلياً لتعاملها مع إسرائيل. فالظاهر من تعاملها مع هذه الأخيرة هو التحيز والدعم وتنسيق المصالح وتبادلها، في حين تبتز الدول العربية في قضايا سياسية واقتصادية، مع النظر إلينا بعين "العطف" و"الدعم" المالي المشروط. ونلحظ أيضاً، أن الولايات المتحدة تبدو وكأنها "تدعم" (لفظياً فقط) الحريات العامة والخاصة في المنطقة، سواء على مستوى الأفراد أو الحكومات، و"تؤيد" (شفوياً فحسب) قيام الديمقراطية وحرية المواطن في الاختيار وصناعة القرار، لكنها في الواقع، ومعها الدول الأوروبية، تمارس الظلم إزاء الوطن العربي بكل مكوناته وأطيافه. فالتطور العسكري والمشاريع النووية السلمية العربية هي "خطر" يهدد مصالح إسرائيل والغرب. والديمقراطية "المسموح لنا" بممارستها هي غير الديمقراطية التي يمارسها المواطن الغربي. والحريات التي يتشدقون بها للمنطقة العربية يجب أن تتماهى مع حدود المصلحة الغربية. وحقوق الإنسان تعني الإنسان بمواصفات الدول الغربية دون احترام خصوصيات الأوطان. وبشكل عام، لم تلمس الشعوب العربية شيئاً عملياً يشجعها على تصديق السياسة الأميركية، وذلك لكونها قائمة على معايير مزدوجة، فهي عملياً تؤكد بأن الحرية في المنطقة هي حرية إسرائيل في القتل والتدمير ومواصلة الاستعمار (الاستيطان)‏،‏ وأن الديمقراطية مجرد كلمة باتت محتكرة إسرائيلياً ولا تنسحب بالضرورة على العرب. وفي هذه الأيام، نلحظ بعداً جديداً أضيف لسياسة الكيل بمكيالين الأميركية والأوروبية على حد سواء، ويتعلق هذه المرة بالقياس تجاه قوى "التطرف" الفلسطيني، وقوى التطرف الإسرائيلي. فالأولى "إرهابية" يستحيل التعامل والحديث معها ويجب القضاء عليها. أما قوى التطرف الإسرائيلية (الليكود وإسرائيل بيتنا وغيرهما) فهي قوى "ديمقراطية" اختارها "الشعب" في انتخابات حرة! بل إن البعض اختار منهج التلوم متذرعاً بأن نجاح الأحزاب اليمينية الإسرائيلية يعود لأجواء مفاوضات التهدئة المتضاربة نتائجها حتى اللحظة، فضلا عن مناخ الحوار الوطني المتذبذب بين حركتي "فتح" و"حماس"، وأن الأخيرة لو وافقت على شروط إسرائيل لتهدئة طويلة الأمد لما نجح هؤلاء في الانتخابات الإسرائيلية، ولربما مهدت الطريق لمجيء حكومة إسرائيلية أكثر استعداداً للتعامل مع شروط "السلام" من الحكومة التي قد يقوم بتشكيلها نتانياهو في ظل تحكم ليبرمان في توازن القوى على المسرح السياسي الإسرائيلي! صحيح أن تمسك "حماس" بثوابت فلسطينية يرفضها الغرب وإسرائيل، جاء (أساساً أو جزئياً) من تعنت الحكومات الإسرائيلية وعدم تطبيق التزاماتها المتصلة بعملية "السلام"، والتي كانت السلطة الفلسطينية قد تبنتها واعتمدتها خياراً استراتيجياً. لكن حركات التطرف الإسرائيلية، وجدت في "الصواريخ" الفلسطينية محلية الصنع شعاراً انتخابياً فعالا، فاستغله المتطرفون الإسرائيليون، وقضوا بذلك على دعوات "السلام" وعلى الأصوات المعتدلة في إسرائيل والتي لطالما ارتفعت، على خجل، في اشتباكات وانتفاضات سابقة، منددة بمجازر إسرائيل وباستخدامها المفرط للقوة. والمعطيات والحقائق التي أفرزتها صناديق الانتخابات الإسرائيلية، كرست نهج التطرف السياسي والعسكري والأمني الذي يدمغ قادة الدولة العبرية الجدد وبرامجهم وتوجهاتهم. فإسرائيل تتزايد شهيتها العدوانية الاستعمارية "الاستيطانية" التوسعية والعنصرية، وتتعزز فيها مكانة اليمين المتطرف، في حين يقدم لها العالم الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، المكافآت علّه ينجح في تشجيع قيادتها على السير في طريق التسوية السياسية! تكمن معضلة السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، بل في العالم أجمع، في ميلها إلى فرضية أن شرعية الحلول تنبع من فاعليتها، بغض النظر عن أخلاقيتها. وهذا تحديداً ما هو يميز تعاملها المزدوج مع قوى "التطرف" الفلسطيني من جهة، وقوى التطرف الإسرائيلي من جهة أخرى، الأمر الذي يؤكد الأفق الضيق والأسلوب الذرائعي في السياسة الأميركية. فالمشاريع الاستعمارية الاستيطانية، وجدار الفصل العنصري، وسلب الأرض، والحفريات في المسجد الأقصى ومحيطه، ورفض عودة اللاجئين، وعملية القتل الممنهج ضد السكان... هي أمور مبررة أميركياً للمحافظة على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة، والمتمثلة بوجود إسرائيل قوية وإلى جانبها دول عربية مسلوبة الإرادة. أما فلسطينياً، فإن الأولويات، من وجهة النظر الأميركية، تكمن في استحقاقات داخلية فلسطينية؛ من "إصلاحٍ" ومكافحةٍ لـ"الإرهاب"... وذلك للتهرب من تزايد المطالبة بإنهاء الاحتلال، وتأكيد إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة. فالسياسة الأميركية في عهد إدارة بوش لم تتلاق مع المبادرة الفلسطينية بحكومة "الوحدة الوطنية"، أو "اتفاق مكة"، ولا حتى مع "المبادرة العربية"، بل ظلت تدعم بشكل سافر حرب إسرائيل على قطاع غزة. وهكذا لعبت أميركا "البوشية" على أوتار جديدة في المعزوفة القديمة للكيل بمكيالين، فتحولت القضية الفلسطينية من قضية شعب يسعى وراء حقوقه السليبة إلى جزء من الحرب الأميركية على "الإرهاب"، فأبعدت القضية الفلسطينية عن الشرعية الدولية! تتجسد المعضلة الأهم، أميركياً، في الموقف "المبدئي" الرافض لفصائل المقاومة الفلسطينية كطرف فلسطيني أساسي لا يمكن تجاهله، خصوصاً في أعقاب العدوان على القطاع. وهي في ممارستها سياسة المعايير المزدوجة هذه لا تفكر في التعامل مع قضية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي من منطلق العدل أو القرارات الدولية. وإذا كانت حجة البعض في رفض التعامل مع "حماس" كونها لا تعترف بنهج السلطة الوطنية، وما نتج عنه من اتفاق مع الجانب الإسرائيلي، فإن هذه الحجة سقطت تلقائياً في رأي عديد المتابعين كون الحكومة اليمينية الإسرائيلية المقبلة لا تعترف أصلا بأي التزامات سابقة تجاه الفلسطينيين، سواء تلك التي وقعتها الحكومات السابقة، أو تلك التي نصت عليها قرارات الشرعية الدولية.