يبدو أن الأزمة الاقتصادية التي تهز أركان العالم حالياً لا تقتصر تداعياتها على قطاع الإنتاج المادي من صناعات وخدمات مصرفية وغيرها، بل تمتد أيضاً إلى حقل الأفكار والأيديولوجيا. وسواء في أوروبا أو الولايات المتحدة، يبدو أن رياح الأطروحات الاقتصادية شرعت في تغيير اتجاهها إلى درجة دفعت البعض إلى الحديث عن ماركس وبعث مفاهيمه من أنقاض التاريخ. وهكذا يخيل إلينا لفرط التحليلات المنصبة حول الأزمة الراهنة ومسبباتها العميقة، أننا إزاء احتضار مرحلة تاريخية لتفسح المجال أمام مرحلة وجهتها ما تزال غامضة لحد الآن. ولفهم هذا النقاش الذي أثارته مخاوف الركود الاقتصادي والذي قد يصل في تدهوره إلى الكساد العظيم الذي خيم على العالم في عشرينيات القرن الماضي وسبر أغوار تداعياته على الصعيد الفكري، يلقي الكتاب الذي نعرضه هنا، وعنوانه "العقل الجديد للعالم: عرض حول المجتمع النيوليبرالي"، لمؤلفيه الفرنسيين بيير داردو وكريتيان لافال، الضوء على مجموعة من المفاهيم التحليلية الضرورية لإدراك المتغيرات الطارئة. ففيما يبشر بعض المحللين بقرب انتهاء وأفول نجم الليبرالية المتوحشة وإعادة إحياء نموذج الاقتصاد الاجتماعي بسبب إخفاق النظام المالي وعجزه على تجنب المضاربة، يرى البعض الآخر أننا على مشارف مجتمع جديد سيحدث ثورة في علاقاتنا بالعمل والطبيعة، بل هناك أشخاص مثل الرئيس الفرنسي ساركوزي أعلنوا وفاة سياسة "دعه يعمل" الليبرالية ودعوا إلى إعادة تشكيل الرأسمالية وبنائها على أسس جديدة يكون فيها للدولة دور مهيمن. لكن المؤلفين اللذين يلوذان بتاريخ الأفكار والفلسفة لفهم ما يجري من تحولات أشعلت شرارتها الأولى الإشكالات الاقتصادية المطروحة حالياً، يقلبان المعادلة بدعوتهما القارئ للوقوف على عتبات النيوليبرالية التي يراد تجاوزها ومعرفة مسار تطورها التاريخي، وهما لذلك يفتتحان كتابهما بتحذير واضح: "إننا لم ننته بعد من النيوليبرالية" لأنها من وجهة نظرهما مازالت مستمرة معنا ليس فقط في المجال الاقتصادي، بل في جميع مناحي الحياة الأخرى، السياسية والثقافية والاجتماعية. هذه هي الفكرة الرئيسية التي يدافع عنها المؤلفان، دون أن يعني انتهاء سياسة "دعه يعمل" الاقتصادية أن النيوليبرالية ستذبل وتفنى. ومع أن الفكرة تبدو متناقضة في ظاهرها، إذ كيف يمكن التخلي عن السياسة الاقتصادية المتبعة حالياً، وفي نفس الوقت الحفاظ على البناء اللنيوليبرالي كما رسخ في أذهان الناس؟ لكن المفارقة ما تلبث أن تتضح عندما نفهم الطبيعة الحقيقية للنيوليبرالية. فهذه الأخيرة يعرفها المؤلفان على أنها "مجموع الخطابات والممارسات والسلوكات التي تحدد حكومة جديدة للناس وفقاً لمبدأ المنافسة"، والحال أن تحقيق هذا المبدأ الذي يعتبر الركن الركين في النيوليبرالية يمر حتماً عبر "الدولة القوية" التي تفرض القوانين وتحدد قواعد اللعبة. ولشرح أطروحتهم القائمة على التمييز بين الليبرالية بما هي إطلاق لقوى السوق دون رادع، وبين نسختها الجديدة (النيوليبرالية) التي تعترف بدور الدولة حتى لو كان بهدف تعزيز المنافسة، يرجع المؤلفان إلى التاريخ وتحديداً إلى عام 1938 عندما عقد الصحفي الأميركي الكبير "وولتر ليبمان" منتدى أطلق فيه لأول مرة اسم "النيوليبرالية" في إحالة إلى الرغبة السائدة حينئذ في القطع مع السياسات الليبرالية التقليدية، لتتحول النخسة الجديدة إلى مشروع يروم إعادة بناء الليبرالية وفقاً لقواعد تعطي الدولة حق التدخل والتنظيم. وبالطبع لا يمكن فهم سياق تلك التحولات بمعزل عن الكساد العظيم الذي وضع الليبرالية التقليدية على المحك وأدخلها أزمة طاحنة، إذ لم تعد النيوليبرالية تعكس ذلك الإيمان المطلق بالتنظيم الذاتي والعفوي للسوق وأصبح لزاماً على الدولة ممارسة دورها التنظيمي والإشرافي، ليس لتقييد حرية السوق، بل لتطبيق مبدأ المنافسة وضمان مشاركة الجميع. وهكذا تغدو النيوليبرالية بمعنى من المعاني حسب "داردو" و"لافال" ضرباً من سياسة تدخل الدولة من حيث سعيها، كما يقول المؤلفان، إلى "إعادة تأسيس الليبرالية دون خضوعها للأيديولجيا الطبيعية التي تطلق يد السوق بعيداً عن المراقبة". لكن إذا كانت النيوليبرالية تقر بدور الدولة في ضبط النشاط الاقتصادي وترفض سلبية الحكومات، فإنها حسب المؤلفين "تعترض على أي تدخل يعيق لعبة المنافسة بين المصالح الخاصة"، بحيث تبدو النيوليبرالية في النهاية وكأنها تجمع بين مبدئي إعادة إحياء دور الدولة من جهة وارتكاز السوق على المنافسة من جهة أخرى. ولم تقتصر التحولات التي يرصدها المؤلفان داخل البناء الليبرالي على المجال الاقتصادي، بل يشيران أيضاً إلى أن النيوليبرالية كمفهوم يمتد إلى مجالات أخرى بتثويره لطريقة إدارة الشركات لتصبح أكثر تنافسية، وإعادة تعريف دور الدولة باعتبارها الحكم النزيه بين فاعلين متنافسين، بل وتأثيرها على الأفراد والمؤسسات الحكومية ذاتها التي باتت تدار على نمط الشركات ويتم فيها التركيز على الإنتاج والفعالية، وهي المقولات التي ساهمت النيوليبرالية في تعميمها لتصبح جزءاً من الثقافة العامة للمجتمع. هذه الفكرة النيوليبرالية ترسخت في أوروبا إلى درجة باتت فيها أقوى من رياح التغيير السياسي، حيث طغى الخطاب النيوليبرالي على الحكومات اليسارية المتعاقبة لتتحول النيوليبرالية في الأخير، كما يشير إلى ذلك عنوان الكتاب، إلى "عقل العالم"، أو بتعبير هيجل "روح التاريخ" الذي تحرك العالم وتدفعه إلى الأمام. زهير الكساب الكتاب: العقل الجديد للعالم: عرض حول المجتمع النيوليبرالي المؤلفان: بيير داردو وكريتيان لافال الناشر: لاديكوفيرت تاريخ النشر: يناير 2009