بالنسبة لبعض الفرنسيين يعتبر "آلان باديو"، الأستاذ بالمدرسة الدولية للفلسفة بباريس، أيقونه ثقافية، باعتباره خليفة لاثنين من أكبر وأعظم الفلاسفة الفرنسيين هما "جان بول سارتر" و"لوي آلتوسير"، ولأن محاضراته تستقطب أعداداً هائلة من الطلاب، لا تقل بحال عن أعداد الذين كانوا يحضرون ندوات الكواكب الأكاديمية الفرنسية المتألقة مثل "جاك دريدا". وكتاب"باديو" الجديد الذي نعرضه في هذه المساحة، وعنوانه "معنى ساركوزي"، لا يندرج بالطبع في سياق الكتب الفلسفية التي دأب "باديو" على تأليفها بحكم تخصصه، وإنما يتناول قصة صعود ساركوزي إلى السلطة، والتي يرى المؤلف أنها مجرد تجسيد آخر للضعف الذي ما فتئ الفرنسيون يسقطون ضحية له منذ حركة الثورة المضادة على الثورة الفرنسية عام 1815. هـذا الضعف كما يقول الكاتب هو الخوف من الوقوع في براثن الفوضى. وهو يرى أن ساركوزي يجسد بشكل مثالي سياسة الاستسلام شأنه في ذلك شأن "فيليب بيتان" القائد العسكري الفرنسي الذي حقق النصر على الألمان في الحرب العالمية الأولى لكنه اعتبر خائناً عندما اتبعت حكومته سياسة تقوم على الاستسلام للنازية أثناء الحرب العالمية الثانية بغرض إنقاذ فرنسا من الدمار، مما كان سببا في الحكم عليه بالإعدام عقب انتهاء الحرب. فكما استسلم بيتان لهيمنة الألمان، فإن ساركوزي -في نظر المؤلف- يستسلم تماماً لهيمنة النموذج الرأسمالي. يقول المؤلف إن هناك نواحي شبه مهمة أخرى بين الرجلين، منها أن كلا منهما حاول تحويل حركة تاريخية إلى كارثة معنوية لفرنسا. هذه الحركة بالنسبة لبيتان هي تلك التي قادت إلى انتصار الجبهة الشعبية لـ"ليون بليم" في انتخابات عام 1936، أما بالنسبة لساركوزي فتمثلت في ثورة الطلاب عام1968. و"باديو" كان يعرف أن اختياره لبيتان كتجسيد للميول المناوئة للثورة سيكون له وقع أكبر على قرائه، مما لو كان قد اختار أي شخصية فرنسية أخرى، مثل لويس الثامن عشر، أو نابوليون الثالث مثلا. ويرجع ذلك إلى أن "بيتان" يقع في القلب من صدمة الاحتلال النازي لألمانيا التي لم تفق فرنسا الحديثة من تبعاته حتى اليوم، والذي مثلت مقاومته والانتصار عليه منبعاً للشرعية السياسية في فرنسا. بيد أن الشيء المخيف حقاً بالنسبة لساركوزي ليس هو الشبه الوثيق بينه وبين الجنرال "بيتان" وإنما محاولته الفجة إعادة تعريف طبيعة المشهد السياسي الفرنسي من خلال قوله: "دعونا نمضي قدما"، وهي الدعوة التي يرى المؤلف أنها تمثل بداية النهاية للإجماع الذي ساد فيما بعد الحرب العالمية الثانية. والمقالات النقدية التي يضمنها المؤلف كتابه تختلف عن تلك التي تحفل بها المطبوعات الرصينة المنتقدة لساركوزي مثل"نوفيل أوبسرفاتوار" أو"لوموند دبلوماتيك"، فساركوزي في نظره هو "عبد لنموذج اليانكي"، كما ان انتخابة كان عبارة عن لحظة عابرة افتقدت فيها فرنسا بوصلتها السليمة، وهويتها الحقيقية، واستعاضت فيها عن النماذج القيادية "الحقيقية" بنماذج أخرى رائجة في اللحظة الحالية مثل نموذجي "بوش" و"بلير". أي أن الوضع الذي كانت عليه فرنسا عندما انتخبت ساركوزي مماثل للوضع الذي كانت فيه إبان الغزو النازي. وهذه المقاربة الهجومية لنموذج ساركوزي قد تجد حرجاً الآن بعد انتصار باراك أوباما، لأن الظروف التي نجح فيها الأخير شبيهة بالظروف التي كانت قائمة في فرنسا ومع ذلك فإن الرئيس الأميركي الجديد، يقابل بثناء كبير، ليس من الشعب الأميركي فقط بل من معظم شعوب العالم، بينما لا يزال المثقفون والفلاسفة الفرنسيون يصرون على انتقاده كما يفعل المؤلف، والذي يتخلى عما كان يجب أن يتصف به من نزاهة وتجرد، فينهال على الرئيس الفرنسي بأقذع العبارات وأكثرها حدة. فهو مثلا يصفه بأنه "رجل يشبه الفأر" وأنه "مثير للقرف" إلى أقصى حد، وأنه مثل "الشرطي المتوتر المدان بالقمع والتعذيب"، كما يعتبر أنه قفز إلى السلطة من خلال نظام انتخابي كانت تجب مقاطعته لأنه النظام الذي سمح لمشاعر الخوف غير المنطقي التي سيطرت على الفرنسيين من احتمال انتشار الفوضى بأن تكون هي السبب في وصول رجل مثل ساركوزي إلى السلطة، رغم أنه لا يحمل مؤهلاتها. وهذه الاتهامات بالطبع لا تقوم على دليل، وإنما هي عاطفية وانفعالية في أفضل الظروف، كما أنها مفعمة بالانحيازات. من تلك الانحيازات اعتقاد المؤلف بأن الثورة هي الخيار الوحيد الذي يمكن أن يعيد فرنسا إلى الخريطة الدولية مرة أخرى، كما أنها هي الكفيلة بعودة الثقافة الرفيعة إلى الساحة على حساب التسلية الرخيصة، وعودة الرومانسية على حساب الحياة المادية. ومثله مثل معظم الشيوعيين يتصف الكاتب بنوع من التعالي والغرور الذي يدفعه للقول إن ساركوزي "غير مثقف" وأنه يمثل نموذجاً للأثرياء الجدد من أنصاف المتعلمين! وهذا الغرور والتعالي من جانب المؤلف، ذي الذائقة الأرستقراطية نوعا ما، كان لا بد أن يقوده إلى خلاصة غاية في الغرابة حيث يقول في نهاية كتابه:"انسوا الانتخابات، انسوا العمل المباشر، وما عليكم سوى التمسك فحسب بالفكرة الأفلاطونية عن الثورة، فبهذه الطريقة، وبها فقط، ستظل فرنسا صادقة مع نفسها على الدوام". سعيد كامل الكتاب: معنى ساركوزي المؤلف: آلان باديو الناشر: فيرسو تاريخ النشر: 2009