كثيراً ما علت أصوات المنتقدين لسياسات تقديم المساعدات الاقتصادية للقارة الأفريقية في الدول الغربية، إلى درجة تحولت فيها هذه الانتقادات إلى ظاهرة متكررة وصوت عال يدعو إلى تجفيف المساعدات تماماً. ومصدر الانتقادات هو افتراض عدم وجود أي أثر إيجابي ملموس لها في تحسين الظروف المعيشية والإنتاجية لشعوب القارة خلال خمسين عاماً الماضية. فمنذ عقد السبعينيات، تلقت دول القارة حوالي 300 مليار دولار في شكل مساعدات اقتصادية، بغرض حفز الإنتاج الاقتصادي وتحسين الظروف المعيشية للسكان. لكن الذي حدث عملياً هو انهيار متوسط دخل الفرد السنوي في الجزء الغالب من الدول الأفريقية. وعليه يستعرض هذا الكتاب تسجيلاً تاريخياً كارثياً لكيفية إساءة استغلال المساعدات الاقتصادية التي تلقتها دول القارة. لكن مشكلة هذا النوع من التحليل أنه يوفر ذريعة يتمسك بها المانحون الدوليون المتشككون أصلاً في جدوى استمرار تقديم المساعدات الاقتصادية لأفريقيا، على أمل التهرب من مسؤولياتهم تجاه دول القارة وشعوبها. وتتضاعف كارثية التحليل والنتائج العملية التي يفضي إليها، حين يصدر عن شخصية أفريقية بارزة مثل "دامبيسا مويور" مؤلفة هذا الكتاب. نالت المؤلفة درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة أوكسفورد، ثم عملت في البنك الدولي، قبل التحاقها بالعمل في "جولدمان ساكس". وربما بسبب انشغال المؤلفة بضغوط عملها اليومي المهني، لم يتوفر لها ما يكفي من وقت يمكنها من تأمل وتحليل أهمية استمرار المساعدات الاقتصادية المقدمة لدول القارة وشعوبها، على نحو أفضل مما فعلت في كتابها هذا. وبفعل عامل الانشغال -أو ربما نقص أدوات التحليل نفسها- جاء الكتاب لهاثاً مقطوع الأنفاس، وقراءة متعجلة غير مستبصرة لتاريخ العون الاقتصادي للقارة. ولما لم تر المؤلفة سوى وجه الخلل وحده في استغلال الميزانيات المخصصة لهذا العون، فقد جاءت البدائل التي قدمتها للعون ناقصة شوهاء هي الأخرى. ولعل نقطة الضعف الرئيسية في هذا التحليل، احتشاده بكثير من التعميمات النظرية لوقائع تاريخية سبق لها أن حدثت قبل عدة عقود مضت، ولم يعد لها من أثر على واقع وسياسات القارة اليوم. بل إن بعضها افتقر إلى منطق التحليل من أساسه. فمثلا ذهبت المؤلفة إلى تفسير افتراضي لتخلف الكثير من دول القارة اقتصادياً واجتماعياً بأنه ربما يعود إلى قسوة جغرافيا القارة وحرارة طقسها. لكنها تنفي الدور الحاسم للعامل الجغرافي المناخي في تفسير التخلف الاقتصادي بقولها إن المملكة العربية السعودية هي دولة تتسم بوعورة تضاريسها الجغرافية وشدة حرارة طقسها، في حين تعاني دولة أخرى مثل سويسرا من جغرافيتها المنغلقة المعزولة. غير أن هذه المصاعب -والحديث للمؤلفة- لم تمنع سويسرا ولا السعودية من التغلب عليها. لكن كيف للتحليل أن يستقيم بدون أن نضع في الاعتبار، الموارد النفطية الهائلة التي تتمتع بها السعودية، إضافة إلى قلة كثافة سكانها نسبياً؟ وكيف تفهم هذه المقارنة العجيبة بين دول القارة الأفريقية وسويسرا دون أن تشمل حقيقة أن سويسرا تمثل مركزاً مصرفياً مهماً في قلب القارة الأوروبية؟ ربما كانت المقارنة هنا أوقع وأفيد بين غرابة هذا التحليل، وما ذهب إليه "بول كولير" مؤلف كتاب "مليار القاع: لماذا تعجز الدول الأكثر فقراً، وما العمل إزاءها؟"، ففي هذا الكتاب تحليل لدور العامل الجغرافي المناخي في تفسير ظاهرة الفقر، إلا أنه لا يعطي هذا العامل أهمية تجاوزت حدود إيراده في ببليوغرافيا الكتاب فحسب. تناولت الكاتبة أثر الاستعمار وتقسيم دول القارة في مؤتمر برلين الذي عقد خلال العامين 1884-1885 على الأوضاع الاقتصادية الراهنة. لكنها لم تمض أكثر من مجرد مناقشة عابرة لهذا الدور. وبدلاً من تحليل تأثيره السلبي على تطور التجربة السياسية -وبخاصة نظم الحكم والسياسة في معظم الدول الأفريقية- نراها تهوم بعيداً في حديث لا معنى له عن العنصرية وتأويلات ماكس فيبر للنظام الرأسمالي والبروتستانتية. وبذلك فقد أخفقت الكاتبة في الإمساك بالعامل الأهم وراء تفسير ظاهرة الفقر في أفريقيا: أنظمة الحكم وفشل وظائف الجهاز الحكومي. ولم تسأل الكاتبة نفسها هذا النوع من الأسئلة مطلقاً: لماذا كل هذه الحروب الأهلية في القارة؟ لماذا كل هذا الحشد من الحكام الطغاة الفاسدين؟ وكيف يمكن أن نفسر البون الشاسع بين غانا وسنغافورة، رغم أن مستوى دخل الفرد في كليهما كان متساوياً في عقد الخمسينيات؟ إن ما غاب عن المؤلفة هو أن العامل الرئيسي وراء نجاح الكثير من دول القارة الآسيوية هو الدور الفاعل الذي لعبه جهاز الدولة في تخطيط العملية الاقتصادية وإدارتها لصالح الشعوب. لكن مشكلة المؤلفة أنها لا تزال أكثر قناعة وترداداً لأسطوانة السوق الحرة والخصخصة. وفيما لو أخذ المانحون الدوليون المتنصلون من مسؤولياتهم بوصفتها ونصائحها هذه -خاصة وأنها توصي بوقف المساعدات الاقتصادية المقدمة لدول القارة خلال خمسة أعوام- فستكون النتيجة العملية هي إغلاق آلاف المدارس والمستشفيات والعيادات الصحية، إضافة إلى وضع حد لبرامج مكافحة الإيدز، وكذلك إنهاء برامج مكافحة الملاريا والسل الرئوي. فأي علم هذا الذي يضر الشعوب ويقتلها؟ عبدالجبار عبدالله الكتاب: لا جدوائية العون الاقتصادي: نحو بدائل أفضل للقارة الأفريقية تأليف: دامبيسا مويور الناشر: مطابع فارار شتراوس آند جيرو تاريخ النشر: 2009