عادت قضية التكلفة المادية الهائلة لرعاية الأطفال الذين يولدون قبل إتمام فترة الحمل، أو الأطفال المبتسرين، للظهور على السطح مرة أخرى بداية هذا الشهر، مع نشر نتائج دراسة أجراها مركز أكسفورد لاقتصادات الرعاية الصحية (Oxford Centre for Health Economics)، أظهرت أن تكلفة رعاية الأطفال المبتسرين في بريطانيا تبلغ 939 مليون جنيه استرليني سنوياً. وتوصلت الدراسة إلى هذه الأرقام، على أساس حساب تكلفة رعاية هؤلاء الأطفال خلال الثمانية عشر عاماً الأولى من حياتهم، بما في ذلك مصاريف الرعاية الصحية، والتعليم، والدخل المفقود لوالديهم نتيجة الوقت الأكبر الذين يخصصونه لرعايتهم. وتتطابق نتائج هذه الدراسة مع التقديرات الصادرة عن الولايات المتحدة، والتي تشير إلى أن رعاية الأطفال المبتسرين خلال الشهور الأولى من حياتهم، تعتبر من أهم البنود التي تستنزف ميزانيات الرعاية الصحية، وذلك دون الأخذ في الاعتبار تكلفة الرعاية طويلة الأجل إذا ما أصيبوا بمضاعفات صحية مزمنة أو إعاقات بدنية أو عقلية. وعلى سبيل المثال، تبلغ رعاية المولود الجديد خلال الأيام الأولى من حياته حوالي ألف دولار، إذا ولد بوزن أكثر من ثلاثة كيلوجرامات، ولكن إذا ما ولد الطفل بوزن يتراوح ما بين 500 إلى 700 جرام، ترتفع تكلفة رعايته حينها إلى 225 ألف دولار. وبوجه عام، ترتفع تكلفة رعاية الأطفال المبتسرين، كلما قصرت فترة الحمل، أو نقص الوزن عند الولادة. ويتوقع الأطباء أن تشهد هذه التكلفة زيادة مستمرة، بسبب الزيادة الملاحظة في عدد الأطفال الذين يولدون مبتسرين حالياً. ففي بداية شهر نوفمبر الماضي، قدرت إحدى المنظمات الخيرية البريطانية، العاملة في هذا المجال، أن عدد الولادات المبكرة في عامي 2006-2007، قد وصل إلى 8.6% من بين جميع الولادات. وهو ما يشكل زيادة واضحة عن معدلاتها في الخمس عشرة سنة الماضية، حيث لم تزد الولادات المبكرة حينها عن 7% من بين جميع الولادات. وبوجه عام تبلغ نسبة الولادات المبكرة من 5% إلى 9% في الدول الأوروبية، لترتفع إلى 13% في الولايات المتحدة. ويعرّف الأطباء الولادة المبكرة، على أنها حالات الولادة التي تتم قبل إتمام سبعة وثلاثين أسبوعاً من الحمل، على أساس أن الحمل الطبيعي يستمر فترة أربعين أسبوعاً. وتكمن مشكلة الولادة المبكرة في أنه كلما قصرت فترة الحمل، كلما زادت مخاطر تعرض المولود الجديد للعديد من المضاعفات والمشاكل الصحية الخطيرة، مثل الشلل المخي، وأمراض الرئتين المزمنة، ومشاكل الجهاز الهضمي، بالإضافة إلى التخلف العقلي وفقدان السمع والبصر. هذه المشاكل الصحية تظهر نفسها بشكل جلي، من خلال الارتفاع الواضح في معدلات الوفيات خلال العام الأول بين هؤلاء الأطفال المعروفين بالأطفال الخدج. وعلى رغم أن الكثير من عوامل الخطر التي تسبب نهاية الحمل بشكل مبكر هي عوامل معروفة وموثقة، فإن نصف الحالات تقريباً لا يوجد سبب واضح خلفها. ومن عوامل الخطر تلك، نذكر: 1- وجود تاريخ سابق للولادة المبكرة أو الإجهاض. 2- الحمل بتوأمين أو أكثر. 3- وجود تشوهات تشريحية في الرحم أو عنق الرحم. 4- الإصابة ببعض الأمراض المزمنة، مثل ارتفاع ضغط الدم، وداء السكري، وقصور الكليتين. 5- حدوث عدوى في الرحم أو في عنق الرحم، مثل العدوى ببعض الأمراض التناسلية. 6- التدخين، وتناول الكحوليات، وإدمان المخدرات. 7- حدوث الحمل قبل سن الثامنة عشرة، أو بعد سن الخامسة والثلاثين. 8- سوء التغذية أثناء الحمل. 9- حدوث نزيف أثناء الحمل. 10- الإصابة بتسمم الحمل. وهذه القائمة الطويلة من الأسباب لا تنتهي عند هذا الحد بل تشمل في رأي البعض أسباباً أخرى يشتبه في تسببها هي الأخرى في الولادة المبكرة، كتعرض المرأة الحامل للتوتر الحاد مثلاً. وحتى النساء اللواتي يعانين أساساً من صعوبة في الحمل والإنجاب، يصبحن عرضة للولادة المبكرة إذا ما حملن. ومن الناحية التاريخية، اعتمد تعامل أفراد المجتمع الطبي مع الولادات المبكرة على زيادة فرص بقاء الأطفال المبتسرين، وتجنيبهم المضاعفات الصحية قدر الإمكان، وإن كانت هذه الاستراتيجية قد شهدت مؤخراً تغيراً جوهرياً، نتيجة أنها كانت تسعى سابقاً فقط لمساعدة الأطفال بعد ولادتهم مبتسرين. أما حالياً فتتركز الجهود الطبية في هذا المجال حول محورين؛ الأول هو الوقاية الأولية (Primary Intervention) الموجهة نحو جميع الأمهات دون استثناء، والثاني هو الوقاية الثانوية (Secondary Intervention)، التي تعتمد على خفض عوامل الخطر المحيطة ببعض الأمهات. وهذا التغيير يتطابق مع الفكر الطبي خلال العقود الأخيرة، المعتمد على التعامل النشط مع الظروف والعوامل التي تؤدي للمرض، بدلاً من التركيز على سبل العلاج بعد الإصابة، عملاً بالنصيحة القائلة إن درهم وقاية خير من قنطار علاج. ولكن في ظل كون نصف حالات الولادة المبكرة غير معروفة السبب، وفي ظل الشكوك التي تحيط بتأثير بعض عوامل الخطر الأخرى، يظل الأطباء عاجزين عن فهم جميع الميكانيزمات التي تدفع بجسم الأم للفظ جنينها قبل أوانه، وهي الحقيقة التي تظهر جلية من الارتفاع المتزايد في عدد الأطفال المبتسرين، بما تحمله ولادتهم المبكرة في طياتها من ثمن إنساني يتمثل في المشاكل الصحية التي ترافقهم أحياناً بقية حياتهم، والتكلفة المادية الباهظة لرعايتهم، والتي تئن تحت وطأتها غالبية نظم الرعاية الصحية. د. أكمل عبدالحكيم