قليل من الأميركيين يدركون حقيقة المشاكل المالية الراهنة في الولايات المتحدة، أو جسامة الأرقام التي ورثها الرئيس أوباما من سلفة بوش، وأنا هنا لا أتكلم فقط على فقاعة العقار وتعثر البنوك، أو الفضائح المرتبطة بخطة الإنعاش الاقتصادي التي أقرها الكونجرس، بل أتحدث عن فشل الحكومة الفيدرالية في تقديم إيضاحات صادقة حول سياستها المالية، أو طريقة تدبيرها للبرامج الأساسية التي تهم الأميركيين مثل التغطية الصحية والضمان الاجتماعي. فعندما دخل الرئيس بوش البيت الأبيض وجد أمامه ثلاث سنوات متتابعة من الفوائض المالية في خزينة الدولة تركها وراءه الرئيس بيل كلينتون، لكن ثماني سنوات بعد ذلك دلف أوباما إلى المكتب البيضاوي ليجد بانتظاره هدية، كما تندر بنفسه مؤخراً، تصل قيمتها إلى 11 تريليون دولار من الديون التي تنوء بها الخزينة العامة، فضلاً عن عجز مالي يبلغ تريليون دولار في السنة مع توقع تواصله في المستقبل المنظور، هذا الدين الذي يثقل كاهل كل رجل وامرأة وطفل في أميركا بحوالي 30 ألف دولار كحصة من الدين العام خارج الضرائب المعتادة التي يدفعها لخزينة الدولة، لكن وبقليل من الإدارة المالية السليمة ما كان الدين العام ليتعدى الصفر. وفي حال اعتقد البعض أن الأمر ليس بهذا السوء دعونا ننتقل إلى جوانب أخرى من التركة المالية للرئيس بوش الغارقة في المشاكل والصعوبات، فقد استدان فريق بوش بأكثر من تريليون دولار من الصندوق المخصص لتمويل الضمان الاجتماعي للأميركيين، وأنفقه على كل شيء تقريباً عدا البرامج الاجتماعية. وكما قالت "بلانش دي بوا" في مسرحية "تينسي ويليامز" الشهيرة "عربة اسمها الرغبة" يعتمد الضمان الاجتماعي في أميركا اليوم على كرم الأجانب، وبالأخص المقرضين في الخارج ودافعي الضرائب في المستقبل. والأسوأ من ذلك رفضت إدارة الرئيس بوش مصارحة الرأي العام بحجم العجز الذي تعاني منه الاستحقاقات الاجتماعية، أو تلك الوعود المبالغ فيها وغير القابلة للتطبيق، فحسب تقرير للتدقيق المالي صادر عن وزارة الخزينة الأميركية، وصل حجم الديون المتراكمة على برنامج الرعاية الصحية إلى 44 تريليون دولار، وفي الضمان الاجتماعي إلى13 تريليون دولار، وهو ما يوسع الثغرة المالية في الخزينة الأميركية ويضعها في موقع يجعلها أكبر بأربع مرات من إجمالي الناتج الأميركي السنوي. ويمثل التقرير المالي لوزارة الخزينة الأميركية الوثيقة الرئيسية التي تساعدنا على استكناه عمق الأزمة بوقوفها على الأرقام الصحيحة لوضعنا المالي، ولأن وزارة الخزينة، هي المكان الوحيد الذي يستخدم فيه العم سام معايير مضبوطة في المحاسبة وجرد الأرقام، وهو يصدر في 15 ديسمبر من كل عام ويوضع على الموقع الإلكتروني للوزارة. وعند مجيء إدارة أوباما أضافت التقرير إلى موقعها الرسمي على الإنترنت لضمان وصوله إلى أكبر فئة ممكنة ولتعميم المعلومات الواردة فيه، ويشير التقرير في هذا السياق إلى أن حصة الفرد الأميركي من مجمل الالتزامات المالية والديون المتراكمة، فضلاً عن الاستحقاقات الصحية والاجتماعية تفوق 184 ألف دولار في السنة ليصل الرقم بالنسبة للعائلة الأميركية إلى نصف مليون دولار في العام. ورغم مرارة الحقيقة، إلا أنه لا مناص من وضع الأصبع على الجرح حتى لو كان الأمر مؤلماً، فالأخبار السيئة تقول إن العجز المالي للعام 2008 بلغ ثلاثة تريليونات دولار، وقد يرتفع أكثر إذا احتسبنا الاستحقاقات الاجتماعية التي تعاني هي الأخرى من ديون ضخمة. واللافت أن حجم العجز المالي نادراً ما حظي بتغطية إعلامية في الولايات المتحدة وظلت الأرقام المخيفة بعيدة عن أذهان عدد كبير من الأميركيين، رغم أنها سترتفع أكثر لو احتسبنا تكلفة خطة الإنقاذ المالي للعام 2009 التي أقرها الكونجرس على مرحلتين، إذ في تلك الحالة لن ينزل العجز المالي عن خمسة تريليونات دولار. الأكثر من ذلك توقعت وكالتان بارزتان للتقييم المالي في "وول ستريت" احتمال فقدان سندات الخزينة المالية الأميركية لقيمتها بسبب الديون الكثيرة، وإذا تحقق هذا السيناريو تكون الولايات المتحدة قد انتقلت من بلد بلا ديون قبل ثماني سنوات إلى بلد مثقل بها حد التخمة المدمرة. وقد قارنت إحدى المؤسستين بين حجم الدين الأميركي حالياً وبين حجمه في دول أخرى مثل إستونيا واليونان، أو بولندا والمكسيك فكيف يمكن لأعظم دولة في العالم أن تُقارن بدول العالم الثالث؟ الجواب يكمن في السنوات الثماني السابقة من سوء الإدارة المالية. لذا فإن القاعدة الأولى لوقف النزيف هي التوقف عن تبذير الأموال ومراجعة سياستنا المالية، حيث من المتوقع أن يبدأ مشروع المراجعة الشاملة في 23 من الشهر الجاري عندما يستضيف أوباما قمة لبحث القضايا المالية في البيت الأبيض، إذ ستكون مهمته الأولى مصارحة الأميركيين بحجم عجزنا المالي، وثانياً طمأنة الأميركيين بأن ذلك لا يعني التراجع عن شبكة الحماية الاجتماعية، بل تعزيز دورها وتعميمها على الأميركيين. وأخيراً سيتعين على "الجمهوريين "و"الديمقراطيين" تقاسم بعض التضحيات والتخلي عن المواقف الأيديولوجية المسبقة سواء تعلق الأمر بالضرائب، أو بالإنفاق. وقد اقترحت في وقت سابق تشكيل لجنة تضم الحزبين، تتولى عقد اجتماعات للتواصل مع الرأي العام في جميع الولايات المتحدة ووضع إطار للإصلاح الضريبي والاستحقاقات الاجتماعية، وأي اقتراح آخر يطرحه الكونجرس يمكن ضمه إلى عمل اللجنة، لأن ما يهم في هذه المرحلة هو التوصل إلى حلول لهذه المشاكل التي تسوء يوماً بعد يوم. جيم كوبر ــــــــــــــــــــــــــــــــــ عضو "ديمقراطي" في مجلس النواب عن ولاية تينيسي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"