يحق لأبي عثمان الجاحظ الآن أن ينام في قبره قرير العين، فرأيه في أهل العراق بأنهم "أهل نظر وذوو فطن ثاقبة" كان غريباً وبني جلدته يهتفون بالروح والدم لمن أرسل أبناءهم إلى حربين عبثيتين ووفّر عياله لتربية الضواري وإطلاق الرصاص في الحفلات، أو حين انجرّوا عقب سقوط النظام البائد خلف العمائم البيضاء والسوداء والأعلام الطائفية. فمع أول فرصة حصلوا عليها ليقولوا كلمتهم بعيداً عن البطش والفوضى والعواطف، أثبتوا صحة رأي الجاحظ فيهم. فقد لقّن نحو 7 ملايين ونصف مليون عراقي، في انتخابات مجالس المحافظات التي أقيمت مؤخراً، درساً جيداً للقوى الدينية، السنية منها التي أعطت ملاذاً آمناً لـ"القاعدة"، وذلك في المحافظات ذات الأغلبية السنية: الموصل والأنبار وصلاح الدين وديالى، فصوّتوا لصالح القوى العشائرية والقومية والعلمانية. ولقنوا القوى الشيعية درساً ستتذكره طويلاً، خصوصاً تلك المرتبطة بالنفوذ الإيراني في العراق وإرهاب "فرق الموت"، وذهبت أغلب الأصوات في بغداد وثماني محافظات في الجنوب والفرات الأوسط للقوى الوطنية والمدنية والمستقلة. وما ذهب للقوى الوطنية -الدينية، كائتلاف "دولة القانون" بزعامة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، فلأن النبرة الوطنية التي تدعو إلى وحدة العراق، في هذه القوى، غلبت على حسّها الديني والطائفي، وكان هذا التصويت على حساب قائمة شهيد المحراب المؤلفة من "المجلس الأعلى"، و"منظمة بدر"، و"حزب الله"، و"حركة سيد الشهداء"، أي ائتلاف الحكيم الذي كان يسيطر على معظم محافظات الجنوب منذ الإطاحة بصدام. مع عدم إغفال تمكن المالكي الذي تولى السلطة عام 2006 كمرشح للأغلبية الشيعية، من فرض النظام وإخلاء الشوارع من المسلحين وتقليم أظافر القوى الشيعية الخارجة على القانون كتيار الصدر. وحتى ائتلاف المالكي نفسه، خسر محافظة كربلاء التي تعتبر من معاقل "حزب الدعوة" الشيعي، وذلك لصالح مرشح مستقل متهم بأنه بعثي سابق، هو يوسف الحبوبي، والذي كان قائمقام كربلاء في عهد صدام. وبنتيجة هذه الانتخابات، يمكن القول إن العراقيين يضعون واقعهم المعيشي في سلّم أولياتهم، بدليل فوز الحبوبي في كربلاء، ثم ينحازون إلى القوى غير الدينية، فإذا لم يجدوا غيرها، فإنهم يصوّتون للقوى الدينية التي تتكلم بلسان وطني وعربي مبين. وحتى ضعف المشاركة في الانتخابات، نحو 51%، يمكن أن يُفهم بأنه عدم نضج سياسي، ويمكن أيضاً أن يُفهم بأنه رسالة من الشعب العراقي للقوى الدينية، فالملايين من الشيعة مثلاً لم يذهبوا إلى صناديق الاقتراع ليصوّتوا للأحزاب الدينية وفضّلوا السير على أقدامهم إلى كربلاء لإحياء الاحتفالات بذكرى أربعينية الإمام الحسين، ولم تفلح حتى دعوة المرجع الديني علي السيستاني لهم في العودة إلى مساكنهم للمشاركة في الانتخابات ثم التوجه إلى كربلاء. لحسن حظ بلاد الرافدين أن الفطنة العراقية ظهرت سريعاً قياساً بشعوب عربية وإسلامية لا تزال تحسن الظن بالقوى الدينية برغم ما لقوا منها، ولم تستطع القوى الدينية في العراق استغلال العواطف الطبيعية للناس طويلاً، وما هي إلا ثلاث سنوات فقط حتى كشفت لهم أنهم لم يجنوا من العمائم الشيعية والسنية سوى طول لسان ومخالب الطائفية وما صاحبها من إراقة الدماء وتهجير العوائل، والفساد السياسي والمالي وزيادة البطالة، خصوصاً حين أخذت الأحزاب الدينية تأكل بعضها بعضاً وتتبادل الاتهامات باستغلال المناسبات الدينية. لا أحد يعرف إن كانت "الفطنة العراقية" ستستمر مع الانتخابات البرلمانية القادمة والتي ستأتي بمجلس النواب الذي سينتخب بدوره رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب، ليرقد الجاحظ في قبره في سلام إلى الأبد.