كل الطرق تؤدي إلى كوبنهاغن، حيث يعقد مؤتمر الأمم المتحدة حول المناخ العالمي نهاية العام الحالي. والمناخ العالمي الذي يتحكم بالاقتصاد والأمن والبيئة، هو ملف رئيسي في أول جولة تقوم بها هذا الأسبوع وزيرة الخارجية الأميركية الجديدة هيلاري كلينتون في دول شرق آسيا. الهدف الرئيسي المعلن للجولة، والتي تشمل اليابان وكوريا الجنوبية وإندونيسيا، بناء "تحالف مناخي" مع الصين، أي بعبارة أخرى الاتفاق حول محاصصة موارد النفط والغاز العالمية. ويعادل حجم الغياب العربي عن أجندة "التحالف المناخي" الأميركية حجم الحضور العربي فيها. لا يُقاس ذلك فقط بموارد النفط والغاز العربية التي تشكل خلفية الأجندة، بل أيضاً بخريطة غازات ثاني أكسيد الكربون، الناتجة عن حرق النفط والغاز والفحم، والتي تعتبر مسؤولة عن تغير المناخ العالمي. وضع الخريطة عالم الفضاء اللبناني الأصل مصطفى شاهين، وهو الذي أشرف على تصميم وإطلاق القمر الاصطناعي والمسبار الفضائي الذي يحمله لتصوير وقياس كميات الغازات المتراكمة في الغلاف الجوي. اختار شاهين للقمر الذي أطلق عام 2002 اسم "أكوا" Aqua ويعني "الماء" باللاتينية، وتلك هي مهمته الأساسية، حيث يجمع معلومات شاملة عن دورة المياه في الطبيعة، بما في ذلك بخار الماء في الجو والغيوم والأمطار والأنهار والثلوج. وسُمي المسبار بالحروف الأولى من عبارة "مسبار الرصد الجوي للأشعة تحت الحمراء" AIRS. مهمة المسبار رصد حركة غازات ثاني أكسيد الكربون حول الكرة الأرضية، والتي تقيم حاجزاً يسمح بمرور الأشعة الضوئية القادمة من الشمس، لكنه يمنع انعكاس الأشعة تحت الحمراء عن سطح الأرض، ويسبب هذا ما يدعى "الاحترار" وتغير المناخ العالمي. رسمت خريطة شاهين، وهي في الحقيقة مجموعة خرائط لتراكمات غاز ثاني أكسيد الكربون وسط الطبقة السفلى من الغلاف الجوي للأرض، والتي تتدّفق كأنهار هوائية تحمل الغازات إلى ارتفاع خمسة كيلومترات عن سطح الكرة الأرضية. وهذه أول خرائط من نوعها في تاريخ علم المناخ، وأهم ما فيها أنها تابعت حركة الغازات خلال ست سنوات الأخيرة، ورصدت التغيرات الفصلية التي طرأت عليها، وكشفت عن اتجاهها المتزايد نحو التكاثف من سنة لأخرى. وتعتبر خرائط شاهين أهم وثيقة علمية في المفاوضات الجارية لوضع اتفاقية جديدة للمناخ العالمي تحل محل اتفاقية "كيوتو" التي ينتهي أمدها نهاية العام الحالي. لكن شاهين لن يكون مسؤولاً عن الاتفاقية. فهذه سياسة، كما أخبرني في أول لقاء لنا عام 1991، وقد حدثني آنذاك عن المسبار الفضائي الذي كان في مرحلة التصميم. كيف يتعامل السياسيون مع خرائط شاهين؟ تُقدِّم فكرةً عن ذلك جلسة الاستماع التي عقدتها نهاية الشهر الماضي "لجنة الشؤون الخارجية" في مجلس الشيوخ الأميركي. خُصصت الجلسة لمناقشة الأجندة الأميركية بصدد اتفاقية المناخ العالمي. وأول ما يلاحظ على الجلسة اختفاء الوعود "الخضراء" للإدارة الأميركية الجديدة، والتأكيد بدلاً من ذلك على عدم راهنية فرض قيود على إطلاق محطات الطاقة للغازات. ولم يرد ذكر لخفض استخدام النفط والغاز، وهو في الواقع مستحيل على المدى المنظور، بل تركز الحديث على استخدامهما بشكل كفؤ يقلل من إطلاق الغازات، وهذا ما كان يردده الرئيس السابق بوش الذي رفض التزام أميركا بأي قيود لخفض إطلاقات غاز ثاني أكسيد الكربون. وأعادت جلسة "لجنة الشؤون الخارجية" طرح وعود ما قبل اتفاقية "كيوتو" حول خفض إطلاق الغازات إلى مستوياته عام 1990، مع التأكيد على ضرورة التزام الدولتين الصناعيتين الصاعدتين، الصين والهند، بهذه الضوابط! استغرقت الجلسة نحو ثلاث ساعات، وقدّم الشهادة الرئيسية فيها نائب الرئيس الأميركي السابق آل غور، والذي عرض لقطات فيديو أعدها فريق شاهين العلمي تصور حركة الغيوم الغازية حول الكرة الأرضية. وقال آل غور إن موضوع المناخ العالمي يمثل "العتلة" التي يمكنها في آن رفع ثلاث مشاكل كبرى تواجه العالم، وهي الأزمة الاقتصادية، والطاقة، والبيئة. وتؤكد جلسة "لجنة الشؤون الخارجية" صواب قول السياسي الألماني بسمارك "السياسة ليست علماً دقيقاً". وإلاّ كيف لا يُستدعى للشهادة مصطفى شاهين؟ وهل هناك أحق منه بجائزة نوبل في البيئة، والتي مُنحت عام 2007 لآل غور؟ أفضل جواب عن هذين السؤالين يقدمه بيان انتخاب مصطفى شاهين لعضوية "الأكاديمية الوطنية للهندسة" الذي صدر بعد بضعة أيام من اجتماع "لجنة الشؤون الخارجية". ذكر بيان الأكاديمية، وهي واحدة من أعلى الهيئات الهندسية العلمية في العالم، أنها انتخبت شاهين "لقيادته التي حدّدت تركيب وتكوين جو الأرض من الفضاء". والتعريف بقيادة شاهين دقيق جداً، ذلك لأنه أحد القادة المجهولين لعصر الفضاء. شغل شاهين خلال سبعة عشر عاماً (1984-2001) منصب رئيس العلماء في "مختبر الدفع النفاث" JPL، وهو أكبر مختبرات وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" NASA وأهم مؤسسة فضائية للبحث والتطوير في العالم، ومسؤول عن جميع المركبات الآلية غير المأهولة التي تطلقها الولايات المتحدة. التحق شاهين بالمختبر عام 1960، مباشرة بعد حصوله، وهو في سن الخامسة والعشرين، على الدكتوراه في الفيزياء من جامعة بيركلي التي تعتبر من أهم الجامعات الأميركية. ويعكس قمر "أكوا" والمسبار الفضائي لرصد المناخ العالمي، خبرة نحو نصف قرن من عمله الذي جمع فيه، على غرار أبرز علماء عصر النهضة العربية الإسلامية بين المسؤوليات العلمية والإدارية، وممارسة البحوث العلمية النظرية والتطبيقية. واستخدم شاهين في قمر "أكوا" والمسبار الفضائي طرقاً حسابية طوّرها لقياس حرارة وتركيب مناخ كواكب الأرض والزُهرة والمريخ والمشتري. ووضع في القمر والمسبار خبرة عشر سنوات كأول رئيس لهيئة "دورة الطاقة والماء في الكرة الأرضية"، وهي إحدى هيئات "المنظمة العالمية للأرصاد الجوية". وهذه ليست أول مرة يضع فيها شاهين علومه الفضائية في خدمة الأرض. ففي سبعينيات القرن الماضي ساهم في حلّ معضلة "الكلوروفلوروكاربونات"، وهي مادة كيماوية مسؤولة عن اضمحلال طبقة الأوزون في الغلاف الجوي، والتي تحمي سكان الأرض من مخاطر الإشعاع الشمسي. كانت المادة تستخدم على نطاق واسع في صناعة المبردات ومكيفات الهواء وطور شاهين أدوات لقياس خطرها، وأدت إلى عقد اتفاقية "مونتريال" التي حظرت استخدامها. مصطفى شاهين مولود في حي "رأس النبع" في مدينة بيروت، وأكمل دراسته الثانوية فيها، ومارينا البندك، زوجته، وأم ولديه، من مدينة بيت لحم في فلسطين. ويُستحسن عند الحديث عن شاهين أن لا نطرح السؤال التقليدي: "ماذا يقدم لنا علماؤنا المغتربون؟"، بل يجب أن نسأل: "ماذا نأخذ نحن منهم؟". يمكن على سبيل المثال أن تستفيد من خرائط شاهين البلدان العربية المنتجة للنفط في وضع استراتيجياتها النفطية. ويمكن أن تستخدم الدول العربية المشاركة في المفاوضات حول اتفاقية المناخ حقائق تكشفها الخرائط عن تراكم غازات ثاني أكسيد الكربون المنبعثة من أميركا الشمالية وأوربا فوق منطقة البحر الأبيض المتوسط، وتراكم الغازات المنطلقة من جنوب آسيا فوق منطقة الشرق الأوسط.