من الحكمة أن يتصف زعماء الأحزاب بالحكمة ويقارعوا الحجة بالحجة، والأرقام بالأرقام، ويدركوا الواقع العربي والإسلامي في هذه المنطقة المضطربة من العالم، بحكم وجود الكيان الصهيوني فيها. كما أنه من الحكمة أن يحظى هؤلاء الزعماء بدعم الأنظمة العربية ولا يراهنوا على مساعدات وتحالفات من أنظمة غير عربية، يكون هدفها شق الصف العربي، وإحداث الفتنة واللعب بمقدرات الأمة. وألا يندفعوا -عبر لغة العاطفة والشحن الأعمى- لتحريض الشباب وإدخالهم نفق الكراهية ورفض الحياة، وعشق ثقافة الموت. لقد شن الأمين العام لـ"حزب الله" هجوماً على مصر مشيراً إلى أن إسرائيل قد أوقفت الهجوم من طرف واحد دون تحقيق أي من أهدافها! بالطبع كان رئيس الوزراء الإسرائيلي قد ظهر في التلفزيون مشيراً إلى أن إسرائيل قد حققت أهدافها من العدوان، وأنها هي التي تبدأ الحرب وهي التي تنهيها! ولذا فلسنا هنا في محل مناقشة الرأيين، لكننا نعود إلى السجال الكلامي "الشرس" بين "حزب الله" والقاهرة. فقد اتهمت مصر نصر الله بالعمالة للنظام الإيراني، وأنه يأتمر بأوامر من طهران. نعتقد أن الأمة أحوج ما تكون اليوم لأي جهد يعزز تلاحمها ويقوي موقفها بعد أن تكرر العدوان الإسرائيلي على البلاد العربية، ولم تتمكن لا الدول الكبرى ولا مجلس الأمن من ردع أو إيقاف تلك الاعتداءات التي تأتي على وتيرة قاسية وضربات موجعة تنال البنى التحتية للبلاد العربية وتستنزف الأموال العربية، ناهيك عن الضحايا والأرواح التي تذهب نتيجة تلك الاعتداءات. كما نعتقد أن "وهم" الانتصارات وأحاديث الغيبيات ينبغي أن يتوقف، وتتجه الجهود نحو معالجة الصراع العربي/ الاسرائيلي عبر حديث العقل لا "شطحات" الميتافيزيقيا؛ أو بطولات المايكروفونات! إن تعويد شباب الأمة على المبالغات الغيبية وشحنهم عاطفياً لن يفيد في المعركة أو المعارك التي تخسرها الدول العربية أمام العدو الصهيوني. بل ينبغي أن نصوغ حديثاً عقلانياً يحدد مَواطن القوة ومَواطن الضعف في جسد هذه الأمة ويقدر بعد ذلك الأولويات، ويضع الإمكانيات. إن الشعب الفيتنامي الذي كبّد الجيش الأميركي خسائر كبيرة -ما حدا بالإدارة الأميركية إلى إصدار قرار الانسحاب من تلك البلاد- كانت له أرضية ملائمة لشن حرب عصابات على مواقع الجيش الأميركي، ولم تكن تلك الحرب قائمة على العقائدية أو الغيبيات أو "القدرية الفكرية"، بل كانت حرب تحرير من محتل وغاصب. لذلك فإن الحالة في لبنان وفلسطين مختلفة جداً! فلا أرض هنالك للمعركة ولا منفذ أو منافذ يمكن السيطرة عليها. كما أن الاتجاه العالمي يميل نحو دعم ثقافة السلام ونبذ الحروب، وكذلك انشقاق الصف الفلسطيني بين (حماس والجهاد الإسلامي)، وبين السلطة الفلسطينية الساعية نحو الاندماج مع المجتمع الدولي للتوصل إلى اتفاق عادل ودائم وشامل في الشرق الأوسط، كل ذلك يعرقل تفاهم الأمة على محددات المرحلة المقبلة. ناهيك عن الصفين العربيين اللذين يقفان خلف هذا المعسكر أو ذاك، صف "المعتدلين" وصف "الممانعين". ولهذين الصفين دور محوري ومؤثر في إدارة الأحداث وتحديد المحددات. وفي هذه الأثناء يعيش المواطن العربي لعبة الاستقطابات -التي تجتذب إليها الحركات والمنظمات الأصولية- حيث يبحث الكل عن مصالحه، أو "مناكفة" الفريق الآخر الذي يخالفه الرأي، ويتخندق في صف معاد و"كارهٍ" للصف الأول. وما حصل إبان "حرب القمم العربية" الأخيرة ما هو إلا نموذج واضح لكيفية الاستقطابات والسعي وراء المصالح، دونما التفات للمصالح العربية العليا. وفي مناخ كهذا تكثر التأويلات، وتتبدل المواقف، وتسقط الحقوق، وتضيع فرص إعمال العقل وترجيح صوت الممكن. والحال أن الشق الذي حدث في جسد الأمة -مع بداية العدوان على غزة- هو نفس الشق الذي حدث في يوليو عام 2006 إثر العدوان على لبنان. ومع أن التاريخ لا يعيد نفسه، بل إن الواقع العربي المتردي هو الذي يشجع إسرائيل على ممارسة العدوان وتكراره لأنها تدرك أن الظاهرة "الصوتية" للعرب لن تحرك الطائرات أو توجه الصواريخ نحوها، اللهم إلا تلك الضعيفة التي تطلقها "حماس" ولا تحدث الدمار الذي يلحق بالمدن والأجساد العربية. تلك المدن التي تحتاج إلى ترميم وإعادة إعمار بعد كل 6 أو سبع سنوات، وهي مرحلة أو فترة السماح التي تفرضها إسرائيل على جيرانها ثم تبدأ بعدها العدوان. ولا يجوز بأي حال من الأحوال تبادل عبارات التخوين والمؤامرة بين العرب، لأن العرب -كما حصل في حادثة (البسوس) يتخاصمون ثم يعودون للوئام- سواء عبر (حب الخشوم) أو (تشحيم الميزانية) ثم يتخاصمون مرة أخرى.. وهكذا! وعلى هذا تراهن إسرائيل وتنام قريرة العين، لأنها محوطة بأمة "ميكروفونية" وتعرف فقط الظهور في مظاهرات "مسيسة" وتستعرض عضلات (شعبها البائس) في حرق الأعلام الإسرائيلية، في وقت نحتاج لحرق الدبابات وإسقاط الطائرات الإسرائيلية. وللأسف، لا تعرف هذه الأمة -ولربما بعض حكامها- استراتيجيات النزاع، ولا تقدر حجم الخسائر -في ظل وجود "نخوة" الإنقاذ والمساندة- ولا تقدر قافلة الشهداء التي تذهب دونما هدف. إن صوت العقل يلزمنا ألا ننخدع بصراخ الفضائيات ولا الإيمان بلعبة المحاور التي أخذت تتنامى في هذه الأمة. فالوحدة هي الطريق الوحيد نحو النضال ورد العدوان، وما عدا ذلك "وجبات سريعة" للاستهلاك المحلي، لا تفيد جسد الأمة، قدر إنهاكه وإصابته بالسكري والصغظ والدهون الضارة.