كانت العولمة تبدو قبل خمس سنوات في ذروتها، ويومها نشر الكاتب الأميركي توماس فريدمان كتابه الشهير "العالم مسطح"، متحدثاً عن سيولة المجتمعات وسهولة الاتصالات وانتقال الأموال والبشر والمعلومات وازدهار ظواهر "العمالة عن بُعد" وزوال الحواجز إلى درجة أنّ الأرض باتت كما لو أنها فقدت كرويتها، وبدا العالم مأخوذاً بهذه الأطروحة، والبعض رأى في ذلك فرصة هائلة بينما شعر بعض آخر برعب من هذا الواقع الجديد. ولكن "اللوثة" بمقولة العالم المسطح لم تستمر طويلاً، وبدأ العلماء في مراجعة هذه المقولة، وأذكر أنّ "مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية" نظّم في عام 2007 مؤتمراً، تحت عنوان: "العولمة في القرن الحادي والعشرين: ما مدى ترابطية العالم؟"، وكنت قد كتبت عن نتائج ذلك المؤتمر في مقال سابق، حيث كان أهم نتائجه اتفاق الأكاديميين المجتمعين على أنّ العولمة غير مكتملة بعد ولم تصل ذروتها، وأنّ قيوداً سياسية وأمنية عديدة تقيد هذه العولمة، وأنّ العالم قد يشهد تحركاً يؤدي للمزيد من تقدم العولمة أو تراجعها. والآن في إطار الأزمة المالية العالمية، يشير الكثير من الدلائل إلى تراجع العولمة، وينتشر الآن بشكل متزايد استخدام مصطلح للدلالة على المرحلة الراهنة، تصعب ترجمته إلى اللغة العربية، هو: Deglobalization، دلالة الاتجاه المعاكس للعولمة، بتراجع الترابطية بين العالم خصوصاً اقتصادياً وسياسياً وتراجع فكرة التجارة الحرة. وما يحدث الآن هو أقرب للاستجابة إلى دعوة فرانسيس فوكوياما التي ضمّنها في مقال في "الجارديان" بعنوان: "أعيدوا الدولة"، عام 2004، (عام صدور كتاب فريدمان)، داعيا إلى عدم المبالغة في الخصخصة وفي تقوية المنظمات غير الحكومية والدعوة للديمقراطية على حساب بناء وتقوية الدول والحكومات وقيامها بتلبية الحاجات الأساسية للمواطن. والواقع أنّ ما يجري الآن هو في بعض الحالات عودة إلى عصر الدولة، وفي حالات أخرى إلى عصر ما قبل الدولة. لقد كانت إحدى تبعات العولمة تسليم كثير من محللي العلاقات الدولية بأنّ الدولة لم تعد وحدة التحليل الأساسية في العلاقات الخارجية، وأنّ قوى مثل الشركات ومنظمات حقوق الإنسان والقنوات الفضائية والأحزاب وجماعات الإرهاب أصبحت "فواعل" عابرة للقوميّات تساهم على نحو غير مسبوق في صياغة السياسة الدولية وليس الحكومات فقط. والآن مع اضطرار دول كثيرة في العالم، إلى تأميم بنوك وشركات كبرى، ووقف خصخصة الخدمات الصحية والتعليمية والخدمات العامة الأساسية الأخرى وتقديم مساعدات للأفراد المتضررين من الأزمة المالية العالمية، ومع تراجع أيديولوجية نشر الديمقراطية والليبرالية في العالم من قبل الإدارة الأميركية، وتراجع تقديم الدعم السياسي والمادي لأحزاب وجماعات حقوق المرأة والإنسان ولمراكز الدراسات غير الحكومية، فإنّ هناك احتمالاً كبيراً لأن تتراجع أدوار "الفواعل العابرة للقوميات" سابقة الذكر، وأن تعود الدولة هي وحدة السياسة الدولية المهيمنة، وكذلك فإنّ الكثير من الفرص التي كانت توفرها العولمة من انسياب البضائع والعمالة والاستثمارات و"العمالة عن بُعد" والالتفاف على رقابة الدولة، ستتراجع، فالحكومات مشغولة الآن بسياسات أقرب إلى سياسات الحماية التجارية وبالاستثمار المحلي الهادف لتوفير فرص عمل سريعة أكثر مما هي مشغولة بالتجارة الحرة والعولمة والديمقراطية. ولكن عودة الدولة ستحدث في الدول المستقرة، أمّا في الدول الأضعف أو ما يعرف باسم "الدول الفاشلة"، فإنّ حالات تفكك وظهور منافسين للحكومات ستتزايد. ففي الدول التي تعجز الحكومات فيها عن توفير الأمن والغذاء والتعليم تزداد قوة الطوائف والقبائل وجماعات المسلحين، وكل منها يسعى لتوفير الحماية والغذاء لأعضائه، تماماً كان الأمر موجوداً في مراحل تاريخية بمناطق مختلفة، في عصر ما قبل الدولة الحديثة، أو كما كان عليه الأمر على سبيل المثال ببعض مناطق الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر وما قبله. وبعبارة أخرى فإنّنا نشهد بداية مرحلة تاريخية تعود فيها الدولة لمواقع بدا أنّها تركتها في السنوات الفائتة، وستتضرر الفواعل غير الحكومية المدنية العابرة للقوميات التي تخدم تأسيس هويات عالمية جديدة، بينما في بعض المناطق في العالم سيؤدي غياب الدولة إلى بعث الهويّات التقليدية الفرعية السابقة لنشوء الدولة الحديثة. د. أحمد جميل عزم aj.azem@gmail.com