هل يمكن أن تمرض المجتمعات كما يمرض الإنسان؟ سؤال مهم أثاره علماء الاجتماع الذين اهتموا بدراسة الأزمات التي تمر بها المجتمعات. وقد توصلوا في هذا الصدد إلى نظريات تستحق التأمل، صاغوها تحت عنوان مثير هو "الباثولوجيا الاجتماعية" أو الأمراض الاجتماعية. ولو نظرنا إلى المجتمع السياسي العربي المعاصر بأطرافه المتعددة التي تتمثل في أجهزة السلطة السياسية الرسمية الحاكمة، وأحزاب المعارضة، ومؤسسات المجتمع المدني، لوصلنا إلى نتيجة صادمة، هي أن هذا المجتمع في الواقع يعد مجتمعاً مريضاً، إذا ما استخدمنا في سبيل الوصول إلى هذا التشخيص عدة مؤشرات كيفية وكمية. ولعل نقطة البداية في تحليلنا تنطلق أساساً من المرض السياسي العضال الذي ألم بالمجتمع السياسي العربي منذ عقود طويلة، وهو ظاهرة الاستبداد السياسي، وانعدام المشاركة في اتخاذ القرار، مما أدى إلى صراعات بالغة الحدة والعنف في مجال السياسة الخارجية أو الداخلية. وفي ظل هذا المناخ الصراعي تتعدد الخطابات السياسية التي تعبر عن السلطة، وتلك التي تترجم دعوات المعارضة. والسؤال الذي ينبغي إثارته الآن هو: ما طبيعة اللحظة التاريخية التي يمر بها المجتمع العربي، والتي ساعدت على إذكاء الصراعات السياسية العنيفة بين جنباته، مما أدى إلى صخب سياسي غير مسبوق، تختلط فيه دعاوى النظم السياسية بأنها هي التي تمثل الشرعية، مع دعايات المعارضة التي يصوغها نشطاء سياسيون، بعضهم عقائديون ينتمون إلى تيار الإسلام السياسي اليميني أو التيار الماركسي الاشتراكي اليساري، أو التيار الليبرالي الوسطي. إن اللحظة التاريخية التي يمر بها العالم والمجتمع العربي على السواء هي تلك التي تتعلق بالتحول الديمقراطي. والتحول الديمقراطي -بحسب التعريف- هو الانتقال من النماذج السياسية الشمولية والسلطوية إلى النموذج الليبرالي. وقد ساعد على بلورة هذه اللحظة التاريخية انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان نموذجاً بارزاً للشمولية التي تمارس الانفراد بالسلطة، وتقمع الخصوم السياسيين، ولا تسمح إطلاقاً بالتعددية السياسية والحزبية، في مناخ يسيطر عليه تقييد حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم. وفي هذا النموذج الشمولي لا وجود على وجه الإطلاق لمؤسسات المجتمع المدني، وليست هناك مراكز اجتماعية تستطيع أن تكون لها مبادراتها المستقلة، بعيداً عن التوجهات الإيديولوجية للدولة. غير أن هناك نماذج أخرى لدول تسلطية تقف موقفاً وسطاً بين الشمولية من ناحية والليبرالية من ناحية أخرى. فقد نجد فيها حرية نسبية لبعض المراكز الاجتماعية، ولكن في ضوء سياسة القمع السياسي الشامل للمعارضة. ويبقى أمامنا النموذج الليبرالي الذي يقبل تداول السلطة وتسوده التعددية السياسية وحرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم. لقد أصبح التحول الديمقراطي مطلباً عالمياً في ظل العولمة، ومن هنا تضغط الدول الغربية الديمقراطية على الدول العربية الشمولية والسلطوية لكي تنتقل إلى النظام الليبرالي بكل سماته المعروفة، وفي ظل النموذج الرأسمالي الذي يؤمن -في ضوء إيديولوجية الليبرالية الجديدة- بكف يد الدولة عن التدخل في الاقتصاد وإطلاق العنان لحرية السوق بلا أية قيود أو حدود، وبغض النظر عن التوازن الطبقي والاجتماعي الذي سيصاب بالخلل، والذي أدى بالفعل إلى تهميش طبقات اجتماعية كاملة ودفعها دفعاً إلى دوائر الفقر المدقع، بالإضافة إلى سقوط الطبقة الوسطى في وهدة الفقر نتيجة التضخم وتدني الأجور. غير أن النظم الشمولية والسلطوية تحارب معاركها الأخيرة للتشبث بالسلطة السياسية التقليدية، ولذلك هي ترفض توجهات عملية التحول الديمقراطي التي يضغط النظام العالمي من ناحية والمجتمع المدني العالمي من ناحية أخرى لإتمامها. وقد أدت هذه الممانعة إلى صراعات بالغة الحدة والعنف بينها وبين قوى المعارضة السياسية العربية. وهذه الصراعات تأخذ أشكالاً شتى بحسب نوع النظام السياسي ذاته. فعلى سبيل المثال تمر مصر بمرحلة تحول ديمقراطي بالغة الأهمية، ومؤشرات هذا التحول متعددة، لعل أهمها اتساع دائرة التعددية الحزبية وإن كانت مقيدة، وإطلاق حرية الصحافة إلى غير حد، ونمو مؤسسات المجتمع المدني وتنوع أنشطتها، وظهور حركات احتجاجية متعددة تمارس نشاطاتها المعارضة، سواء من خلال الوقفات الاحتجاجية، أو المظاهرات، أو عقد الاجتماعات العامة. ومع كل ذلك فإن الصخب السياسي في مصر لا حدود له! ويرد ذلك إلى أسباب متعددة، لعل أهمها أن ضعف أحزاب المعارضة دفع بها إلى تبني مواقف حدية ضد النظام، تقوم على أساس الرفض الكامل المطلق لكل السياسات الحكومية. بالإضافة إلى وجود جماعة محظورة نشطة تمارس المعارضة البرلمانية في مجلس الشعب لأن لها أكثر من ثمانين نائباً، وتمارس سياسة التحريض ضد النظام من خلال تحركاتها الجماهيرية، لأنها استطاعت جذب مواطنين إلى صفوفها من خلال رفع شعار "الإسلام هو الحل". وهو وإن كان شعاراً بغير مضمون، إلا أنه استطاع تزييف الوعي السياسي لقطاع عريض من المواطنين، الذين عجزوا عن إعمال عقولهم في التماس الحلول العقلانية للمشكلات المصرية واكتفوا برفع هذا الشعار، الذي لا يضمن في الواقع حل أي مشكلة، لأن مشكلات المجتمع المعقدة لا يمكن أن تحلها الفتاوى الدينية السطحية، ولا الدعوات المتطرفة، التي تنطلق من رؤى للعالم تتسم بالمحافظة والجمود والتطرف. غير أن المسرح السياسي المصري الذي يزخر الآن بصحف المعارضة والصحف المستقلة، برزت على خشبته شخصيات لم تكن معروفة من قبل، تمارس الكتابة الصحفية أو النشاط السياسي في الأحزاب أو خارجها، أو في مؤسسات المجتمع المدني. وعديد من هذه الشخصيات مصاب بانحرافات شخصية متعددة أبرزها النرجسية الشديدة، وادعاء بعضهم أنهم وحدهم القادرون على تخليص المجتمع المصري من أزماته المتعددة! بل إن بعضهم في معرض استعراض عضلاته الثورية المزعومة قام بسب الشعب نفسه واتهمه بالجبن لأنه لم يقم بثورة استجابة لمقالاته التافهة! وكأن الثورة ليست أكثر من مظاهرة أو وقفة احتجاجية تنطلق فيها الحناجر! مع أن الثورة -لمن يعرف ولمن يدرس التاريخ العالمي والتاريخ العربي- حدث جلل لا يتكرر ببساطة في تاريخ الأمم، وهي لا يمكن أن تحدث إلا إذا نشأ ما يطلق عليه "الموقف الثوري" الذي تبلور قبل ثورة يوليو 1952، حين احتدمت المشكلة الاجتماعية، ونعني الفجوة العميقة بين من يملكون وبين من لا يملكون من ناحية، والمشكلة الوطنية من ناحية أخرى، ونعني الاحتلال الإنجليزي لمصر في هذه الحقبة التاريخية. لذلك حين قامت ثورة يوليو 1952، كانت استجابة لحركة الشعب المصري بقواه المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في رفض النظام القديم والدعوة إلى إسقاطه، وبناء نظام اجتماعي جديد يقوم على الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية. والواقع أننا نستطيع أن نفهم وأن نحلل سر المرض السائد في المجتمع العربي المعاصر لو انتقلنا -في مجال دراسة الأمراض الاجتماعية- من إطار نظري متماسك يتحدث عن ثلاثة مقتربات لفهم الظاهرة. المقترب الأول هو نهج يدرس الأزمة باعتبارها نتاج التغير الاجتماعي العميق. وهذا التغير الاجتماعي مرده أساساً إلى التغييرات الأساسية التي لحقت ببنية المجتمع العالمي وأبرزها ظاهرة العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية، وعجز المجتمع العربي عن التفاعل الإيجابي الخلاق معها. والمقترب الثاني هو نهج صراع القيم الذي يدرس ويحلل القيم المتصارعة في المجتمع، وهي في المجتمع العربي المعاصر تتمثل في الصراع بين رؤية دينية للعالم تتسم بالانغلاق والجمود، وتتبناها الأحزاب السياسية الإسلامية والحركات الإسلامية كلها على اختلاف توجهاتها، ورؤية علمانية تتبناها القوى السياسية العلمانية والديمقراطية. والمقترب الثالث والأخير هو نهج الانحراف الشخصي بحسبانه نتاج سلوك بعض السياسيين أو المثقفين الذين ظنوا وهماً أنهم -وحدهم- القادرون على حل مشكلات المجتمع، انطلاقاً من إحساس متضخم بالذات، وتشوش فكري لا مثيل له، تختلط فيه الأفكار الإسلامية التقليدية أو المتطرفة، مع بعض الأفكار الماركسية أو الاشتراكية السطحية، مع بعض الدعاوى العروبية التي تنكر فكرة الوطنية، وتدعو إلى الأممية الإسلامية، أو إلى الوحدة العربية بغير تأمل أو دراسة أو تحليل. ولعل التحليل السابق الذي حاولنا من خلاله دراسة الأمراض السائدة في المجتمع العربي المعاصر يساعدنا على فهم عديد من الخطابات السياسية والصحافية الغوغائية التي لا تنطلق من تحليل علمي دقيق للأزمة، ولا من دراسة رصينة للبدائل السياسية المطروحة، ولا من بحث تاريخي ونقدي مقارن لتجارب الشعوب الأخرى. فالتحول الديمقراطي العربي ليس دعوة من قبل النظام العالمي فقط، ولكنه مطلب جماهيري أصيل، وعلى السلطة السياسية في مختلف النظم العربية أن تراجع موقف الممانعة الذي تتخذه منه، وعلى القوى السياسية المعارضة أياً كانت توجهاتها أن ترشد خطابها، وأن تبتعد قدر الطاقة عن اللاعبين في السيرك السياسي الذين يقومون بأدوار بهلوانية مضحكة، في ضوء الوهم السائد لديهم بأنهم المعبرون عن الجماهير، مع أن الجماهير لها قياداتها الشعبية المعروفة ذات التاريخ الوطني والقومي. وهذه القيادات الشعبية قادرة من خلال النضال السلمي الديمقراطي على أن تضغط على السلطات السياسية حتى تستجيب لمطالب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.