شهدت الأعوام الأخيرة أحداثاً مهمة ونوعية لما يسمى بالإعجاز العلمي بالقرآن الكريم، إذ اختارت حكومة دبي الدكتور زغلول النجار شخصية العام في مجال خدمة الاسلام لجهوده في كشف الدلالات العلمية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وفي أبوظبي رعت الحكومة المؤتمر الأول للعلاج بالرقية الشرعية، وفي شمال الخليج أعني الكويت أقيم المؤتمر السنوي للهيئة العالمية للإعجاز العلمي بالقرآن والسنة التابعة لرابطة العالم الإسلامي... وأخيراً في صنعاء أعلن الزنداني الزعيم الديني اليمني البارز عن اكتشافه لعلاج يشفي من مرض الإيدز والالتهابات الفيروسية المستعصية الأخرى... وفي السعودية لا خبر يعلو على أبحاث بول النوق. الملاحظة الأولى على هذه الأحداث أنها أولاً: حظيت جميعها بدعم وبرعاية رسمية من الدول صاحبة الشأن، يتجلى هذا بالدعم المادي، وأكثر من ذلك بحضور على أعلى المستويات أحياناً لبعض هذه الفعاليات. الملاحظة الثانية: هي التغطية الإعلامية المكثفة من وسائل الإعلام وخصوصاً المرئية لفعاليات هذه الأحداث. حتى أن بعض القنوات الرسمية كانت تنقل بعضها أو أجزاء منها على الهواء مباشرة. وهذا ما لم نعتده من الإعلام العربي تجاه أي من الفعاليات العلمية. الملاحظة الثالثة: أن المحرك الرئيس في هذه الفعاليات هم أصحاب اختصاصات علمية تطبيقية (جيولوجيا في حالة جائزة دبي، طب كما في مؤتمري أبوظبي والكويت، صيدلة كما في حالة الشيخ الزنداني)، هؤلاء كلهم يتقدمون بخطاب ملخصه: لقد وجدنا طريقاً آخر للمعرفة غير الطريق التقليدي الذي تحدث عنه العلماء منذ ما قبل حضارة اليونان وإلى مسح الجينوم. الطريقة العلمية التقليدية تنطلق من الملاحظة ثم اقتراح النظرية وبعد ذلك فحص بالتجربة المعملية لإثباتها أو نفيها. الطريقة الجديدة عند الإعجازيين (أعني القائلين بدعوى الإعجاز العلمي في القرآن والسنة) هي كالتالي: المعرفة تأتي أيضاً وبطريقة أسرع من الوحي إلى التجربة. حتى يصبح كلامي أكثر وضوحاً: القصة كما يقدمها أصحاب الإعجاز هي أنه وبشيء من التأمل في الوحي قرآناً وسنة يمكن التوصل إلى اكتشافات علمية مهمة، قد لا يمكن التوصل إليها بالطرق المعرفية التقليدية. من أمثلة ذلك ما أعلن عنه الشيخ الزنداني من توصله لعقار جديد يشفي من الإيدز والتهابات فيروسية أخرى. وقصة الاختراع (الذي نتمنى أن يكون حقيقة) كما رواه الزنداني لقناة "الجزيرة" ولأكثر من وسيلة إعلامية أنه تأمل بعض الأحاديث فاهتدى إلى "خلطة" معينة، ثم أنه وفريقه العلمي فحصوا هذه الخلطة المستوحاة من أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأخضعوها للمنهج العلمي في اختبار الأدوية الجديدة بدءاً من الحيوان وحتى البشر المصابين بمرض الإيدز، وثبت أن هذا الدواء الآتي من صنعاء يشفي جميع إصابات الإيدز أو على الأقل ما يقرب من عشرين حالة شفيت تماماً وهو ما يمثل تقريباً كل العينة التي شاركت في الدراسة. هذا الكلام (الذي يفرح له كل عربي وكل مسلم لو ثبتت صحته) لا يفتأ الشيخ الزنداني يكرره في كل ظهور إعلامي له. وربما من حقه أن يفعل ذلك لكن المستغرب أن الشيخ لم يبعث بأي ورقة علمية لأي من دوريات الطب المحكمة يلخص فيها نتائج بحثه. القصة الطبيعية لأي تجربة عندما تكتمل أن تذهب إلى دورية محكمة، وبعد مراجعتها وتدقيقها تقبل أو ترفض، وفي حالة القبول يحدد تاريخ النشر، وتفضل الدورية أن لا يدلي الباحث بأي تصريح للإعلام عن الدراسة إلا بعد نشرها. ما شهدناه هو أن الشيخ الزنداني صرح للعديد من الفضائيات، ولم ينشر بحثاً واحداً في دورية محكمة عن علاج الإيدز. اعتذر مرة أنه لا يريد إفشاء سر الدواء، رغم أن نشر نتائج التجربة لا يعني الكشف عن سر الدواء. لو صدق الزنداني ونشر بحثه وأثبت صحته وقضى على الإيدز لتحولت جامعة "الإيمان" إلى ما يماثل "هارفرد". ولأصبحت صنعاء بوسطن العرب، ولن يصعب على مثل هذا الفريق العلمي حينها أن يجد دواءً يساعد في النفور من القات، علة اليمن الأولى قبل الإيدز. ما يقال عن الزنداني يسري على مجال الفعاليات الأخرى، اتهم زغلول النجار في أحد برامجه كل من لا يشاركه طريقة التفسير إما بالجهل في العلوم الحديثة، وهذا حال المشايخ التقليديين حسب قوله، أو بالجهل بعلوم الدين كما عند العلماء التطبيقيين. أو ببغض الدين وهذه حال العلمانيين كما قال. وقال إنه لا يرى خطراً من تفسيره، إذ أن القطعي العلمي لايتعارض مع القطعي الديني، كان الشيخ يفسر رؤيا النبي يوسف: (إني رأيت أحد عشر كوكباً... الآية)، وكان يذكر أن المفسرين القدامى جهلوا معناها الحقيقي حتى جاء العلم الحديث وبيّن أن النظام الشمسي يتكون من أحد عشر كوكباً، ما أن أكمل الدكتور النجار التبشير بتفسيره الجديد حتى قرر علماء الفلك طرد بلوتو من كواكب النظام الشمسي. كنت قد جادلت في مقالة سابقة أن دعوى الإعجاز لا تستقيم مع الضوابط الابستمولوجية للمعرفة. وأن الحقيقة الإيمانية هي غير الحقيقة العلمية. كلاهما حقيقتان: الحقيقة الإيمانية أساسها الاعتقاد، أما الحقيقة العلمية فأساسها التجربة. إن التأسيس النظري لقصة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة له تبعات خطيرة. ما يفعله هؤلاء هو استدعاء للدين الى المعمل، المشهد القادم القريب عملياً هو مزيد من التضليل لعباد الله مقابل غنائم للإعجازي الذي يضلل ليبدو عالماً. أما على المدى البعيد فالقادم "كوبرنيقية" إسلامية مقلوبة. يمارس فيها العالم الإعجازي اضطهاده تجاه العالم الحقيقي، ويخسر النص الديني والعلم ليربح الإعجازي من ورائه. -------------------------- د. يوسف الصمعان أخصائي في الطب النفسي