تواجه دول مجلس التعاون تحديين كبيرين: الأول خارجي متمثل في طموح إيران النووي وما يحمله من مخاطر أمنية وسياسية وبيئية على الخليج، والثاني داخلي متمثل في اختلال التركيبة السكانية، فالخليجيون أقلية وسط محيط بشري مختلف بعاداته وثقافاته ولغاته ومصالحه. إذن هناك قلق مزدوج ومستمر، وإذا كان القلق الخارجي هماً مشتركاً بين دول المنطقة والدول ذات المصالح الاستراتيجية في الخليج، فإن القلق الداخلي مسؤولية الخليجيين وحدهم، ولا خيار أمامهم إلا بتحسين الجودة النوعية للعنصر البشري المواطن. وقد وفِّق "مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية" في اختيار قضية "الموارد البشرية والتنمية في الخليج"، موضوعاً لمؤتمره السنوي الرابع عشر. لقد كان هذا المؤتمر وما صاحبه من فعاليات حدثاً أثرى الحياة الثقافية بدولة الإمارات واجتذب جمهوراً كثيفاً واعياً بأبعاد القضية، وعلى امتداد الجلسات التي عقدت بالمركز بأبوظبي بين يومي الثاني والرابع من فبراير الجاري، وعبر العديد من الطروحات والرؤى والمداخلات، توصل المشاركون إلى بيانهم الختامي متضمناً أبرز الحلول لهذه القضية التي تشكل هاجساً خليجياً مزمناً. ولا تفوتني الإشادة بدور هذا المركز وإسهاماته المتجددة في الحياة العامة، سواء في دولة الإمارات أو على الصعيد الخليجي، إذ هو "واحة" حضارية بديعة و"معلم" ثقافي بارز يساهم في قيادة التغيير والتحوُّل وفي رسم صورة المستقبل الحضاري. وقضية "الموارد البشرية" أتت منسجمة مع ظروف الأزمة المالية العالمية، ولقد كان الخليجيون وعلى امتداد 30 سنة منشغلين بقضايا التنمية وتحدياتها وهمومها، وكانوا على وعي بأنهم في سباق مع الزمن، وأن "العنصر البشري" وجودته هو الرهان المستقبلي وأن الاستثمار فيه هو "الجهاد الأكبر". افتتح المؤتمر فعالياته تحت الرعاية الكريمة للفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس المركز، وجاء في كلمة الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان وزير الداخلية قوله "إن الإيمان الراسخ بقدرات البشر على تحقيق المعجزات مهما كان حجمها والقدرة على تذليل التحديات التي تعترض التنمية، كانت من الركائز الثاتبة في فكر قيادة البلاد، جيلاً بعد جيل". وجاء في كلمة الأمير تركي الفيصل إن العرب والمسلمين ينتمون إلى أمة عريقة لها لغتها ودينها وثقافتها "الأمر الذي يجعل الأمة تنظر إلى نفسها بثقة من دون خوف على هويتها من العولمة ومتطلباتها". وجاء في كلمة الدكتور جمال سند السويدي مدير عام المركز إن دولة الإمارات "وضعت اسراتيجيتها للتنمية بالاستثمار في العنصر البشري باعتباره الثروة الحقيقية الباقية، لذلك سابق المجتمع الإماراتي الزمن وانتقل على يد صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله من مرحلة التأسيس إلى مرحلة التمكين بعد أن استطاع مؤسس الدولة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه أن ينتقل بالحلم إلى الحقيقة ويضع الأساس المتين لبناء دولة الاتحاد". هذه الكلمات تبعث الفخر والاعتزاز في نفوسنا وبخاصة أن استراتيجيات التنمية في الخليج جعلت من "النموذج التنموي الخليجي" نموذجاً مشرقاً، يُقتدى ويُدرَّس، وجعل الكيان الخليجي هو الأكثر انسجاماً وتعاوناً وتماسكاً واستقراراً والأعظم أملاً، وأصبحت المنطقة الأكبر استقطاباً للاستثمارات العالمية والأكثر انفتاحاً وتفاعلاً مع ثقافات العالم. لقد أصبح الخليج حلم كل عربي بل وغير العربي، الجميع يطمحون للمجيء هنا للعمل والإقامة والعيش؛ نهضة عمرانية غير مسبوقة، تنمية شاملة في كل القطاعات، اقتصاد مزدهر هو الأعلى عالمياً، تعليم متطور، خدمات اجتماعية وصحية عالية المستوى، والأهم بيئة اجتماعية وسياسية آمنة ومستقرة ومشرقة، بينما الناس يُتخطَّفون من حولها، لا يأمنون على أنفسهم ولا على ذراريهم وأموالهم، نعم "بيئة آمنة" مطمئنة، لا زوار فجر يطرقون بابك ليأخذوك من حضن أسرتك إلى غياهب المجهول ولا سيارات مفخخة تنفجر في الآمنين ولا رصاصة طائشة تصيب الغافلين. لقد نجحت استراتيجيات التنمية الخليجية وعلى كافة المستويات وبجميع المعايير وجعلت منطقة الخليج هي الصورة المضيئة، وسط منطقة شاسعة تسودها ظلمات التعصب الطائفي والصراعات الداخلية وتعيش شعوبها عذابات التسلط والحكم الشمولي. إننا بحاجة اليوم إلى استحضار تلك الكلمات المضيئة وتأكيد تميُّز وتفوق التجربة التنموية الخليجية، وبخاصة أن هناك من استغل ظروف الأزمة المالية وانعكاساتها السلبية على الاقتصاديات الخليجية، للتشكيك في الاستراتيجيات الخليجية ولتشويه التجربة التنموية، وأنها كانت تنمية للحجر على حساب البشر، وليتهكموا قائلين: ألم ننصحكم؟! ألم نحذركم؟! لذلك كان أمراً إيجابياً أن غالبية الأوراق المقدمة في المؤتمر اتجهت وعالجت تحسين نوعية الموارد البشرية وتطويرها وفتحت أسواق العمل أمام مواطني الخليج وتفعيل مبدأ المواطنة وتنشيط القوى المعطلة وتفعيل مساهمة المرأة وتطوير التعليم، وهي أمور كفيلة بالحد من سلبيات النمو السريع. لكن أوراقاً قليلة بدت كما لو أنها تريد قلب "الطاولة" رأساً على عقب، تقول إن المشكلة ليست في الموارد ونوعيتها وإنما في الاستراتيجيات وفي النموذج التنموي ذاته. نحن نحترم كافة وجهات النظر ونثق في مصداقيتها وحرصها، لكن من الظلم أن نحكم على تجربة تنموية بهرت العالم أجمع لمجرد انتكاسة عابرة أو هزة ظرفية بسيطة جراء كساد عالمي لم تسلم منها أقوى الاقتصادات المتقدمة، بل أزعم أن الاقتصاد الخليجي هو الأقل تضرراً. وكمان قال الدكتور سلمان الهتلان في مقالته الرائعة: "دبي... وإن طال الزمن"، فإن "من يمشي أو يركض، طبيعي أن يتعثر، أما الجالس على الأرض أو على كنبة عتيقة، فلن يتعثر، لكنه حينما يضطر للوقوف، سيدرك أن أهل الطموحات الكبيرة قد سبقوه مسافات طويلة". إن الدول لن تغير خياراتها الاستراتيجية لمجرد أن بعض مواطنيها لا يطيقون زحام الآخرين في الطرقات والخدمات، أو لأن بعضهم أصبح يحس بمشاعر الغُربة، كونه أقلية وسط أكثرية مختلفة، هذه السلبيات التي نضيق بها يجب أن تكون محفزات تستنفر طاقاتنا لمواجهتها، لا الشكوى والتذمر منها. لا يجوز بأي حال أن تكون تلك السلبيات معوّقات للتنمية أو معاول لهدم هذا البناء الحضاري الجميل، يكفي فقط أن الإنجاز التنموي الإماراتي، قدم لمواطني البلاد وساكنيها وغيرهم ما عجز عنه الآخرون، قدم لهم "نوعية راقية ومتميزة من الحياة" قلَّ أن يظفر بها الناس في أي مكان من العالم، ذلك هو التحدي، وهذا هو الإعجاز التنموي.