لاشك أن باراك أوباما، وهو في واشنطن، يذكِّر المرء بالفيلسوف اليوناني ديوجينس حين خرج بمصباحه في وضح النهار يطوف في الشوارع بحثاً عن رجل صادق. ويبدو أن إيجاد رجال صادقين أمر أصعب مما كان يعتقده المرشح الرئاسي أوباما حين وعد بإدارة لا يلطخها أعضاءُ الجماعات الضاغطة، والمدافعون عن مصالح الشركات الكبرى، وغيرهم من تجار المصالح القطاعية والشخصية الضيقة. والواقع أن أوباما يستبعد أن يكون قد ظن في وقت من الأوقات بأن هؤلاء جميعهم "جمهوريون" لأنه عاش في واشنطن لما يكفي من الوقت حتى يعرف أن ذلك مخالف للحقيقة. فمن بين "الديمقراطيين" أيضاً، صادف أوباما ليبراليين لا يدفعون واجبات "الضمان الاجتماعي" الخاصة بخدمهم المنزليين المهاجرين من بلدان أخرى. ثم صادف السيناتور "الديمقراطي" السابق "توم داشل" الذي أثبت أنه يعاني مشكلة أكبر من ذلك بكثير. غير أن ثمة تعقيدات أكبر؛ إذ كيف يمكن إيجاد شخص في واشنطن يعرف ما ينبغي أن يعرفه المرء بخصوص مشكلة ما ولم يصبح بعد مرتبطاً مالياً بأحد الحلول المقترحة لها. فالسيناتور "داشل" اكتسب سمعة باعتباره الرجل الذي يعرف أكثر من غيره الأزمة التي يعانيها نظام الرعاية الصحية الأميركية: إنفاق مبالغ تفوق ما ينفقه أي بلد صناعي آخر على الصحة مقابل الحصول على أسوأ النتائج مطلقاً، أو أسوئها تقريباً. ولكن المشكلة تكمن في أن البلدان المتقدمة التي تحقق أفضل النتائج تتوفر عادة على أنظمة تأمين حكومية مثل "نظام الدافع الفردي" (single-payer system) أو، مثلما هو الحال في فرنسا -التي تتوفر على أفضل نظام رعاية طبية حسب منظمة الصحة العالمية- تتبنى نظاماً مختلطاً براجماتياً. فالسلطات الصحية في فرنسا، مثلًا، تمول الرعاية الصحية الشاملة الأساسية؛ والمرضى أحرار في اختيار الطبيب الذي يريدون، مثلما أن الأطباء أحرار في ممارسة ما يريدون وفي أي مكان يريدون. غير أن ثمة عنصراً ضرورياً لإنجاح كل ذلك يتمثل في نظام شبه شامل لشركات التأمين التعاوني (mutual) أو لمنظمات يتعين على كل من له وظيفة أن يساهم فيها. ومن أجل الحفاظ على أقساط التأمين في مستوى يستطيع تحمله المشتركون، تتولى الدولة أيضاً مسؤولية العناية بالأشخاص الذين شارفوا الوفاة والمصابين بعاهات وإعاقات بالغة. ثم هناك مستشفيات عامة كبيرة، وأخرى خاصة، ومصحات ومختبرات خاصة وشبه خاصة؛ وكل هذا يكون موضوع مفاوضات دورية بين الموظفين الصحيين والأطباء ومنظمات تمثل الجمهور. والواقع أن معظم الأميركيين المقيمين في الخارج الذين عاشوا في الكثير من البلدان يرون أن نظام الرعاية الصحية الفرنسي هو الحل الأنسب. لا أقول هذا بغرض الدعاية لفرنسا، كما أنني لا أعرف الأنظمة الاسكندنافية أو الأسترالية أو غيرها مما تتمتع بسمعة جيدة، غير أن الساسة الأميركيين الذين يعقدون المقارنات يركزون دائماً تقريباً على نظام الرعاية الصحية البريطانية الذي يعاني من مشاكل مزمنة، تعود لأسباب من بينها حقيقة أن القصد منه منذ البداية هو أن يكون بالمجان، فالمريض هناك لا يدفع شيئاً أساساً. وإذا كان هذا يعني أنه لا يوجد ما يحول دون الإدمان على زيارة الطبيب باستمرار أو من أجل أسباب تافهة، فإن المريض في فرنسا، وباستثناء الفقراء جداً، مرغَم أولاً على دفع مبلغ مقابل كل علاج غير روتيني تعيده إليه الإدارة لاحقاً، وبهذه الطريقة يتم الحد بشكل أتوماتيكي من استغلال هذا النظام. وبالعودة إلى واشنطن، فإذا كان السيناتور السابق "داشل" قد اكتسب لنفسه سمعة باعتباره خبيراً في الأنظمة الصحية، فقد جمع في الوقت نفسه، منذ مغادرته مجلس الشيوخ، ربع مليون دولار بصفته متحدثاً ومستشاراً لشركات التأمين الخاصة والرعاية الصحية. وعليه، فهل هناك من يعتقد أنه لو أصبح وزيراً للصحة والخدمات الإنسانية كان سيوصي بنظام جديد يوقف قطاع التأمين الصحي الخاص؟ الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن شركات التأمين هي التي وأدت مقترحات هيلاري كلينتون الرامية لإصلاح النظام الصحي قبل ثماني سنوات. ثم أين يذهب، برأيكم، المال الذي يجعل من الرعاية الصحية الأميركية الأغلى في العالم؟ قطعاً إنه لا يذهب إلى رواتب الممرضين والممرضات. ثم إن الضرائب أيضاً ليست مشكلة إذا كنت ستصبح وزيراً للخزانة. فتيموثي جيثر يقول: "كيف كنت أستطيع تجاهل ثلاثين ألف دولار؟". ربما يستطيع المرء تجاهل ذلك إذا كان موظفاً في البنك المركزي أو في بنك "جولدمان ساكس". والحقيقة أن الوزير جيثر ثُبت في منصبه منذ مدة، على رغم كل شيء. وبعيداً عن المزاح، أرى أن الأمر خطير. فهل يوجد أي شخص مهم في واشنطن بمنأى عن أموال الشركات الكبرى -الكبرى حقاً- التي تربطه ببعض القطاعات أو المواقع الحزبية؟ ربما لا. قبل سنوات كنت أشدد في كتاباتي على أن الحل الوحيد يكمن في المطالبة بفترات محددة ومتساوية وغير مدفوعة الأجر للحملات السياسية في القنوات التلفزيونية المحلية والوطنية، ومنع الإعلانات السياسية مدفوعة الأجر؛ ذلك أن الأموال التي تخصَّص للحملات السياسية التلفزيونية هي التي حوَّلت واشنطن إلى وكر من أوكار السرقة المقننة. ولكن واشنطن كانت دائماً ولا تزال "مكاناً آخر" مثلما تكتشف عائلة أوباما هذه الأيام. فعائلة الرئيس الجديد تنحدر من شيكاجو، التي تعرف جواً رديئاً (أكثر من ثلاثة أقدام من الثلج سنوياً)؛ وفي أحد أيامها الأولى في البيت الأبيض، سقطت على واشنطن ثلوج لم يتعد علوها 3 سنتمترات، فأغلقت كل المدارس بالمدينة، وكان الرئيس قد سجل ابنتيه "ماليا" و"ساشا" في مدارس واشنطن. ولاحقاً، ألمح أوباما للصحافيين بأن على سكان واشنطن أن يتمالكوا أنفسهم ويجدوا طرقاً لمواجهة مثل هذه الأزمات. ومنذ ذلك الحين، انهالت عليه التعليقات اللاذعة في واشنطن، والتي كان مؤداها أن الثلج في واشنطن مختلف، وأنه إذا لم تكن واشنطن تعجب عائلةَ أوباما، فإنهم يستطيعون العودة من حيث جاءوا. ---------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"