لكي يفهم المرء ما حدث يوم السبت قبل الماضي في الغابات الواقعة على سفوح سلسلة جبال The Great Dividing بشمال شرقي مدينة ميلبورن الأسترالية، فإن عليه تخيل يوم مكفهر تهب فيه الرياح العنيفة بينما تقل فيه درجات الرطوبة عن 10 درجات. عليك الآن تخيل تغيير هذه الرياح لمسارها بشكل مستمر، بحيث تتحول سرعة رياح قدرها 60 ميلاً في الساعة، إلى الاتجاه المعاكس فجأة. وفي مدينتي ميلبورن وفكتوريا الجنوبية يطلق على ذلك التغير المفاجئ في اتجاه الرياح وصف "التغير البارد" لأنه يؤدي إلى انخفاض في درجات الحرارة يصل إلى حوالي 20 درجة مئوية خلال نصف ساعة فحسب. وذلك ما يستلطفه الناس في تقلبات الطقس والمناخ. غير أن ما حدث يوم السبت هو أن التغير المفاجئ في اتجاه هبوب الرياح، لم يصحبه أي انخفاض في درجات الحرارة كما هو مألوف عادة. بل على العكس تماماً، بلغت درجات الحرارة 115 درجة فهرنهيتية، وارتفعت حرارة التربة إلى درجة اشتدت بسببها حرارة الهواء، ما أبقى على درجات الحرارة مرتفعة لعدة ساعات بعد التغير المفاجئ في اتجاه الرياح. وبدلاً من أن يكون انعكاس الرياح عوناً لقوات الإطفاء التي كانت في سباق محموم مع الحريق، بات عوناً لتمدد ألسنة اللهب إلى بلدتي "كينج ليك" و"مارسفيل" اللتين طالما ساد الاعتقاد ببعدهما عن خطر الحرائق. ولكن الحقيقة أن كلتيهما تقعان في جوار غابات "الأكاليبتوس"، وهي أشجار غنية بالطبقات والخلايا الزيتية القابلة للاشتعال والاحتراق السريع. وحين بلغت ألسنة اللهب تخوم تلك البلدتين، لم يكن أمام ساكنيها سوى أحد خيارين: إما الهرب بسياراتهم وسط كرات الدخان الكثيفة، والأشجار المتهاوية، والسيارات الأخرى المتزاحمة إلى طريق النجاة، أو البقاء في أماكنهم على أمل التمكن من مكافحة اللهب. يذكر أن المواطنين في تلك المناطق الريفية من فكتوريا الجنوبية قد تلقوا تدريباً على مكافحة النيران، خلال برنامج مخصص لذلك الغرض تنظمه "هيئة المطافئ الريفية". وعادة ما يتم التدريب تحت الشعار الذي يحمله البرنامج "غادر مبكراً أو ابق ودافع عن بيتك". وضمن المهارات والمعاني التي يغرسها البرنامج في نفوس مواطني الريف، إنه ليس من البطولة الخارقة ولا الشجاعة في شيء، أن يبقى المرء ليدافع عن بيته، بقدر ما إنه ليس من الجبن أن يقرر أحدهم مغادرة بيته أمام خطر النيران. وأياً يكن الخيار الذي يقرره المرء، فإن عليه أن يتخذه مبكراً ويثبت عليه. ويتم تدريب من يقرر البقاء على كيفية إطفاء الشرارات الأولى التي تأتي في مطلع النيران القادمة. ويشمل التدريب ارتداء الملابس الآمنة الواقية من الحريق، إلى جانب توفير المضخات وصهاريج المياه الكافية التي يعول عليها. ويتعلم المتدربون أن كل المطلوب هو مكافحة النيران وليس محاولة سباقها. ومع أن النيران تستطيع الوصول إلى بيت أو مبنى ما خلال ثوان أو دقائق فحسب، إلا إن في وسع هدوء الأعصاب وسرعة العمل إنقاذ البيوت من خطر الحريق. ويعمل صديقي "جم" متطوعاً مع "هيئة مطافئ الريف"، وكان قد كلف يوم الأحد الماضي بمراجعة قوائم الرعاية الاجتماعية الخاصة بسكان الجزء الجنوبي من البلدة الصغيرة القريبة من مزرعته، حيث احترق 26 منزلاً من منازلها. كان على "جم" أن يتأكد مما إذا كان قد توفي أي من سكان تلك البلدة جراء الحرائق؟ وكنا قد هاتفنا بعضنا ذلك المساء، فقال لي: هذه الحرائق مختلفة جداً هذه المرة. فالذين بقوا للدفاع عن منازلهم وجدوا أنفسهم مطوقين بأحزمة لهب يبلغ ارتفاعها 130 قدماً، بينما بلغت سرعتها 60 ميلاً في الساعة. وهذا خطر يفوق أي تدريبات أو مهارات تلقوها في برامج مكافحة الحرائق. وعلى امتداد المنطقة الجنوبية كلها، حاول الكثيرون ممن قرروا البقاء والدفاع عن منازلهم بادئ الأمر الفرار دون جدوى، لأن المحاولة جاءت متأخرة جداً عن موعدها. وبالنتيجة سقط الكثيرون منهم صرعى تلك النيران الهوجاء. وليس من غرابة في مثل هذه الحرائق القاتلة في فكتوريا، والأنحاء الجنوبية من أستراليا. ففي "يوم الجمعة الأسود" في يناير من عام 1939، لقي 71 مواطناً حتفهم وسط كرات من اللهب المتأجج. وفي "أربعاء الرماد" من شهر فبراير عام 1983، صرعت ألسنة اللهب الحمراء نفسها 83 شخصاً. غير أن الحرائق الأخيرة هذه، هي الأشد فتكاً لكونها أزهقت أرواح ما لا يقل عن 181 ضحية! وهذا ما يحتم على الأستراليين تعلم دروس الحريق هذا. وضمن ذلك، عليهم الأخذ في الاعتبار بما إذا كانت قاعدة "المغادرة المبكرة أو البقاء والدفاع" نفسها أصبحت بحاجة لإجراء تعديل عليها أم لا؟ كما ينبغي أيضاً النظر تارة أخرى في اندفاع المزيد من المواطنين لبناء بيوت أحلامهم في قلب الريف والغابات الأسترالية، مدفوعين إلى ذلك بما تحقق لهم من ثروات ودخل إضافي أتاحته لهم عقود ممتدة من النمو والازدهار الاقتصاديين. ومن بين ما تجب مراجعته وإعادة النظر فيه، كيف أن الكثير من هذه العائلات المدنية التي تبني بيوتها في الريف لم يحدث لها أن تعلمت قيم الاعتماد على الذات والروح الجماعية الريفية، مع العلم أن كليهما يمثل جزءاً لا يتجزأ من قيم الحياة الأسترالية. وضمن التخطيط المستقبلي لدرء خطر الحرائق، لا بد من وضع الاعتبار لدور التغير المناخي في تأجيج النيران وزيادة خطرها على حياة المواطنين وممتلكاتهم. ------- جيرارد رايت صحفي أسترالي مقيم في لوس أنجلوس -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"