كتب تسعة باحثين صحفيين بحثاً نشر في مجلة (Der Spiegel) عدد 49 لشهر ديسمبر 2008، وكانت المعركة الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة تطرح احتمالات انتصار باراك أوباما، معلنين الفكرة التالية: إذا صار أوباما في يناير رئيساً للولايات المتحدة، فإنه يبدأ بناء نظام عالمي جديد. ومنذ ذلك الحين وحيث صار أوباما الرئيس الأميركي الجديد، تتسع التحليلات لتفهم ما حدث، وما المتوقع، على الأقل خلال السنوات الأربع القادمة. لكن بما أن أزمنة المعجزات قد ولت، فإن البديل عن ذلك يقف العلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي... إلخ عليه، للتمكن من وضع اليد على معالم ومواقع أولية للموضوع المعني. لقد جاء أوباما في مرحلة تاريخية تتقاطع فيها عوامل الانكسار مع احتمالات إعادة البناء. فمنذ مجيء بوش وإلى الآن، سجل التاريخ في خانته ما لا يُحصى في العالم من الانهيارات والتراجعات والتهديدات بحروب ونزاعات جديدة، أخذت تضع العالم قاب قوسين أو أدنى من الاحتضار الكوني. وقد جاء ذلك متوازياً متفاعلاً مع العولمة، التي بشرت بتدخل آلهتها في العالم على نحو تجعل منه ساحة لا تبرد من الصراعات. وأتى على رأسها رجال مأفونون يلهثون وراء إحكام القبضة على ما تبقى من بقاع العالم، ولعل بوش يقدم الصيغة الأكثر إرعاباً وهزلاً، لذلك كله، جاءت الصور المأخوذة عنه متلائمة مع صور قادة الحروب الهمجية في التاريخ القديم والوسيط، لتطرح من جديد أسئلة المصير والوجود على البشرية كلها. لقد انطلق الأمر من تصدع النظام العالمي السابق القائم على توازن استراتيجي بين أطرافه الكبرى، وتبعته الحروب النظامية والأخرى الاستباقية، لتضع الولايات المتحدة خصوصاً أمام هزيمة مركبة، اقتصادية ومالية وسياسية وعسكرية وأخلاقية، فانفجر الإعلام العالمي يسائل الطواقم البوشية ومن تحالف معها، فيما إذا كان الأمر قد وصل مرحلة الخيانة الوطنية والإنسانية، التي تقضي وضع المتهمين أمام المساءلة الكبرى. ولأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة يتحول رئيسه إلى رمز "للموت الكوني"، فإذا كانت الدعوة قد انطلقت لمحاكمة بوش بتهمة الخيانة، فإن الإعلام العالمي راح يُمعن في إسقاط قناع الديمقراطية الزائف، الذي رفعه النظام العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة. وفي أحد البرامج التلفازية الألمانية، يسأل مدير البرنامج مشاهديه عما قاله أوباما عن بوش، أهو وزير دفاع (حرب)، أم هو وجه تتلطّى وراءه الكتل المالية والعسكرية الطامحة إلى امتلاك العالم، أم هو حارس للمصالح الجشعة، أم هو - أخيراً - سيدة بيت لا علاقة لها بما هو خارج بيتها (جاء ذلك على قناة RTL الألمانية الساعة التاسعة إلا ربعاً من مساء يوم 23/1/2009. واتضح أن الأزمة المالية الكبرى الراهنة لا تطال الولايات المتحدة وحدها، بل تدخل كذلك بعمق في بلدان الاتحاد الأوروبي، وفيها ألمانيا، خصوصاً حيث برز أنها ذات طابع بنيوي، وأنها ليست ذات طابع آني طارئ. فوزير المالية لهذا البلد يعلن بوضوح كلي، قائلاً: نحن لسنا ذوي قوة كلية تواجه (الأزمة المذكورة - مجلة دِير شبيجل، العدد المذكور فوق). والشيء الطريف إلى درجة الاستفزاز والمرارة ما لجأت إليه اللجنة الوطنية في الحزب "الجمهوري" الأميركي، حين اختارت "مايكل ستيل" لرئاستها، مُسوِّغة ذلك بأن هذا الأخير سيأتي على رأس حزب (هو الجمهوري) متهم بأنه يثير العنصرية. وإذ يأتي مايكل ستيل (الأسود اللون) المحتم أن يكون منافساً لأوباما (الأسود كذلك)، إن الأمر حسب خطاب"الجمهوريين" سيتخذ منحى آخر، منحى ديمقراطياً مناهضاً للعنصرية، إنه - كما هو ظاهر - موقف أيديولوجي تكتيكي يسعى أصحابه لرد تهمة العنصرية برفع أحد السود في الحزب إلى مستوى عالٍ. ولعل مثل هذا الموقف يزيد الأمر اضطراباً، ويجعل من "الأزمة الراهنة" حالة قابلة للاختراق والتجاوز بإجراء ساذج، كذلك المتصل بتغيير بشرة الوجه. لم ينجح أوباما على أساس أنه من السود بالدرجة الأولى، وإنما من موقع كونه أتى حاملاً مشكلات وهموم نسبة ساحقة من الشعب الأميركي ومقتنعاً بضرورة الاستجابة لها والدفاع عن مصالحها. ومع ذلك، يمكن القول إن أوباما قد يتلكأ عن ذلك، أو يخفق فيه. فهو إذ يرى أنه إلى جانب مصالح الأكثرية الساحقة للأميركيين، فإنه يرى أن مشكلات أخرى عظمى تواجهه بقوة: مشكلات الحروب الصامتة في العراق وأفغانستان وغيرها، ومشكلة التسلح النووي في العالم، ومشكلة فلسطين المتأزمة، وربما كان التحذير الذي أطلقه الرئيس الجديد للمعارضة "الجمهورية" في الكونجرس علامة مهمة على المشروع الاستراتيجي، الذي يحمله للإجابة عمّا يواجهه حالياً. العالم يعيش حالة من الترقب، وسيكون الأمر أكثر فاعلية، حين يضع أوباما يده بيد شعوب العالم لخلق نظام عالمي يتسم بالعدل والحرية والسلام.