ننشر في هذا المقال الفقرة الثالثة من المداخلة التي ساهمنا بها في ندوة البنك الدولي بباريس عام 1996، حول العولمة (انظر صفحات الِثلاثاء الماضي من "وجهات نظر"). كان العنوان الأصلي لهذه الفقرة كما يلي: "أيديولوجيا العولمة... والإمبراطورية العالمية"، أما العنوان أعلاه فمقتبس من خاتمتها. *** إذا كانت العولمة تبدو، ظاهرياً على الأقل، كنتيجة للتقدم الهائل الذي حصل في المجال التكنولوجي والإعلامي والمعلوماتي خلال العقود الأخيرة من هذا القرن (العشرين)، فإن هناك من الباحثين من يعود بالعولمة كنظام اقتصادي وإعلامي وأيديولوجي إلى "مبادرة" تقدم بها بعض المنظرين في الولايات المتحدة الأميركية عام 1965 طرحوا فيها ثلاث قضايا جعلوا منها برنامج عمل يضمن لواشنطن الهيمنة على العالم: - القضية الأولى تتعلق باستعمال السوق العالمية كأداة للإخلال بالتوازن في الدول القومية، في نظمها وبرامجها الخاصة بالحماية الاجتماعية. - القضية الثانية تخص الإعلام بوصفه القضية المركزية التي يجب الاهتمام بها لإحداث التغييرات المطلوبة على الصعيد المحلي والعالمي. - القضية الثالثة وتتعلق بالسوق كمجال للمنافسة. لقد ذهبوا في هذه المسألة مذهباً قصياً فقالوا إن "السوق" يجب أن تصبح مجالاً لـ"اصطفاء الأنواع"، متبنين هكذا بصورة صريحة النظرية الداروينية التي تقول بـ"البقاء للأصلح" في مجال البيولوجيا، داعين إلى اعتمادها في مجال الاقتصاد على مستوى عالمي. يتعلق الأمر إذن بأيديولوجيا صريحة تقوم على ثلاث ركائز: 1- شل الدولة الوطنية، وبالتالي تفتيت العالم، لتمكين شبكات الرأسمالية الجديدة، والشركات العملاقة متعددة الجنسية، من الهيمنة عليه والسيطرة على دواليبه. 2- توظيف الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة في عملية الاختراق الثقافي واستعمار العقول، وذلك بربط "المثقفين" (والتكنوقراطيين منهم بالخصوص) بدائرة محدودة ينشدُّون إليها بصورة آلية: دائرة "التسيير" التي تصرف العقل عن أي شيء آخر يقع خارجها، فتجعل منه عقلًا أداتياً محضاً raison instrumentale. وهكذا تسود "النفعية الجديدة" التي قوامها ابتكار الأدوات النظرية الكفيلة بتخفيض التوترات وتطويق الصراعات واعتماد الحلول التقنية المعلوماتية دونما اهتمام بالجوانب الإنسانية والأخلاقية. 3- التعامل مع العالم، مع الإنسان في كل مكان، تعاملاً لا-إنسانياً، تعاملًا يحكمه مبدأ "البقاء للأصلح". و"الأصلح" في هذا المجال هو "الناجح" في كسب الثروة والنفوذ وتحقيق الهيمنة. وفي إطار هذا المبدأ تبدو "الخوصصة" و"المبادرة الحرة" و"المنافسة" ...إلخ، على حقيقتها كأيديولوجيا للإقصاء والتهميش وتسريح العمال أخذاً بمبدأ: "كثير من الربح، قليل من المأجورين". ويبرز باحث متخصص (1995) الطابع الإمبراطوري للعولمة فيشير إلى أن هذه الأخيرة ليست مشروعاً ينتظر التحقيق، ولا هي مجرد عملية تسريع وتقوية للمنافسة والتبادل على الصعيد الدولي، بل إنها واقع فرض نفسه بواسطة إمبراطورية الرأسمال النقدي المستقل عن الرأسمال الصناعي والبضاعي، إمبراطورية دفعت بالليبرالية المتوحشة إلى أقصى مدى. وهكذا عملت العولمة على الإطاحة بالمؤسسات التي كانت تقوم في الخمسين سنة الماضية (قبل عام 1996) بحماية التوازن الاجتماعي الذي كانت تتولاه الدولة والذي من عناصره الأساسية: العمل المأجور بوصفه وسيلة للاندماج الاجتماعي فضلًا عن كونه طريقاً للكسب الفردي من جهة أولى، والنظام النقدي الدولي المؤسس على قيم ثابتة للتبادل من جهة ثانية، ثم وجود مؤسسات دولية قوية تفرض الانضباط والامتثال على الرأسمال الحر من جهة ثالثة. إن تقويض هذه العناصر الثلاثة قد أدى إلى الحكم بالبطالة والتهميش والإقصاء على ملايين المأجورين والشباب، وإدخال المجتمعات، حتى المتقدمة منها نسبياً، في بطالة بنيوية. ومما يُستدَل به في هذا الصدد مقالة نشرها أحد المسؤولين الكبار -سابقاً- في وزارة الدفاع بالولايات المتحدة الأميركية في مجلة "شؤون خارجية" الأميركية (عدد مارس- إبريل 1996) يشرح فيها كيف أن أميركا ستتمكن في المستقبل القريب من تعزيز سيطرتها السياسية على العالم، وذلك بفضل ما تتمتع به من قدرة لا مثيل لها في مجال إدماج منظومات الإعلام المعقدة، بعضها في بعض. وهو يرى أن "الجيوبوليتيكا"، أو السياسة منظوراً إليها من زاوية الجغرافيا، وبالتالي الهيمنة العالمية، أصبحت تعني مراقبة "السلطة اللامادية"، سلطة تكنولوجية الإعلام التي ترسم اليوم الحدود في "الفضاء السيبرنيتي" Cyberspace (حدود المجال الاقتصادي السياسي التي ترسمها وسائل الاتصال الإلكترونية المتطورة). وهكذا فبدلاً من الحدود الوطنية القومية تطرح أيديولوجيا العولمة حدوداً أخرى، حدود إمبراطورية غير مرئية، ترسمها شبكات الهيمنة العالمية على الاقتصاد والأذواق والثقافة. في العالم العربي، كما في مجمل الأقطار التي تطمح إلى إرساء دعائم التنمية في إطار وطني قومي، ينظر إلى العولمة كظاهرة يكون كل نمو أو تقدم فيها على حساب الدولة والأمة. فـ"العولمة" بهذا الاعتبار تعني، أو ينتج عنها، نقل اختصاصات الدولة وسلطتها في المجال الاقتصادي والإعلامي، ومن ثمة في السياسة والثقافة أيضاً، إلى مؤسسات عالمية. تماماً مثلما أن الخوصصة هي نزع ملكية الدولة ونقلها إلى الخواص. والخواص في عصر العولمة ليسوا بالضرورة من أبناء الوطن، بل هم، و"ينبغي أن يكونوا"، من أصحاب الرأسمال المالي الذي لا وطن له. ومن هنا ينظر إلى العولمة على أنها تستهدف، ثلاثة كيانات: الدولة، الأمة، الوطن. وإذا نحن سحبنا هذه الكيانات الثلاثة، فماذا عسى يمكن أن يبقى على الساحة المحلية والدولية؟ يبقى ما يحل محلها جميعاً: الإمبراطورية العالمية. والإمبراطورية الجديدة، في عصر العولمة، قوامها: 1) الشركات والمؤسسات المتعددة الجنسية التي تتولى التسيير والتوجيه والقيادة عبر العالم، وهي بذلك تحل محل الدولة، في كل مكان. 2) أبناء البشر في كل مكان من الكرة الأرضية القادرين على الاستهلاك والذين يوحّد بينهم ويجمعهم ما تلقيه إليهم العولمة من سلع وبضائع ومنتوجات إلكترونية تخلق فيهم ميولًا وأذواقاً ورغبات مشتركة. إنها "الأممية" الاستهلاكية في عصر العولمة. 3- أما غير هؤلاء من الذين لا تتوفر لديهم القدرة المالية على الاستهلاك فهم معرضون للتهميش والإقصاء، وينتظر أن‎ يتم التخلص منهم عن طريق "الاصطفاء الطبيعي"، الذي يتوج المنافسة التي أصبحت تعني أكثر من أي وقت مضى: "أكثر ما يمكن من الربح بأقل ما يمكن من المأجورين". هكذا يبدو عالم العولمة، من منظور هذه التصورات، كعالم بدون دولة بدون أمة بدون وطن. عالم ذو وجهين: عالم المؤسسات والشبكات و"الفاعلين" المسيرين، وعالم "المفعول فيهم" وهم المستهلكون للمأكولات والمعلبات والمشروبات والصور و"المعلومات" والحركات والسكنات التي تفرض عليهم في الفضاء الذي تصنعه شبكات الاتصال ويحتوي احتواء كل من الاقتصاد والسياسة والثقافة، والذي هو عبارة عن "وطن" جديد لا ينتمي لا إلى الجغرافيا ولا إلى التاريخ. هو "وطن" بدون حدود وبدون ذاكرة وبدون تراث.