جاءت نتائج الانتخابات الإسرائيلية لتدفع للواجهة من جديد المقولة التي تذهب إلى أنّ التطرف يستدعي التطرف! وهذه المقولةُ يستخدمها دائماً الإسرائيليون والعرب. والإسرائيليون "المعتدلون" يقولون إنّ التطرف الإسلامي في صفوف العرب، هو الذي أفشل طريق السلام وأدّى إلى صعود اليمين الديني المتشدد لدى الجمهور الإسرائيلي، بحيث جاء حزب "إسرائيل بيتُنا" ثالثاً بعدد مقاعده في الكنيست. وقد دَأَبَ معتدلو العرب ومتطرّفوهم في السنوات الماضية على التحدث للأوروبيين ولإدارة بوش المنصرفة بالمنطق نفسه وإنْ للوصول إلى نتائج مختلفة. يقول هؤلاء إنّ الآلام التي عاناها الفلسطينيون ويعانونَها منذ عقود، وانسداد آفاق الحلول والتسْويات، وحروب إسرائيل المستمرة على أجسادهم... تكفلت بأمرين: إبراز تيار متطرف في صفوفهم وصفوف الجمهور العربي يعود بالأمور إلى أُصولها وبداياتها، وكسْر جناح المعتدلين العرب الذين يقولون بالمفاوضات السلمية. والذي أراهُ أنّ "معتدلي" الصهاينة، لا يتوخَّون الصراحةَ والنزاهةَ، لا مع أنفسهم وجمهورهم، ولا مع الطرف الآخَر. فاليمين الإسرائيلي الديني والسياسي، ما صعدتْ أسهُمُهُ في السنوات الأخيرة؛ بل هو في صعودٍ مستمرٍ ومنذ حرب عام 1973. وحزب العمل الذي اعتُبر معتدلاً في العقدين الأخيرين، هو الذي أسَّس الكيان الصهيوني وقاد سائر حروبه. ومع ذلك فإنّ هذا الحزب في انحطاطٍ دائمٍ ومستمرٍ منذ عقدين أو أكثر، ومعه سائر التيارات المحسوبة على الليبرالية واليسار، ومنها حركة "السلام الآن". ولا شكَّ أنّ لذلك علاقةً بالصراع مع الفلسطينيين والعرب. لكنْ بالدرجة الأولى له علاقةٌ بالموجة العالمية لليمين والصعود الديني لدى اليهود والبروتستانت والمسلمين. وكانت آخِر إنجازات اليسار والليبراليين في الصفوف الإسرائيلية إقْناعَهُم لليمين الديني أنه من الخير لهوية الدولة اليهودية التخلُّص من التكاثُر العربي، بالانفصال عن الفلسطينيين عبر التخلُّص من الاحتلال والسماح بإقامة دولة للفلسطينيين. وهم إنْ فعلوا ذلك يحققون عدة إنجازاتٍ لإسرائيل: بقاء الأكثرية في الكيان يهودية، وجَعْل الدولة الفلسطينية مسؤولةً عن الأَمْن، ونيل موافقة العرب على الوجود الإسرائيلي عبر المباردة العربية للسلام. وبعد عام 2004 دخلتْ في هذه الحُجَج إدارة بوش؛ وذلك بعد أن يئست هي وشارون من إمكان القضاء على المقاومة الفلسطينية تحت شعار الحرب على "الإرهاب الإسلامي"! بيد أنّ أكثرية اليمين الإسرائيلي السياسي والديني ما اطمأنّتْ إلى هذه الحُجَج، وذكرتْ لذلك سببين أو شاهدَين: أنّ الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000 ومن غزة عام 2005، وتسلُّم "حزب الله" عملياً قيادة الجبهة من جهة لبنان، و"حماس" قيادة الفلسطينيين من ناحية غزة، ما جلب الأمن لإسرائيل. والسبب الآخَر أنّه ليس هناك ضمانٌ إذا قامت الدولة الفلسطينية على 20% من أرض فلسطين أن لا يعودَ الفلسطينيون لمصارعة إسرائيل؛ وبخاصةٍ إذا وصل للسلطة هناك متطرفون إسلاميون. وعلى أيِّ حال؛ وسواءٌ اقتنع الجمهور الإسرائيلي بهذه الحُجّة أو تلك؛ فإنّ الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة أظهرت أنّ الجمهور الإسرائيلي يريد استخدام القوة ضد الفلسطينيين، ولا يضعُ أيَّ أَمَلٍ في التفاوُض معهم. والوعي الحاكمُ الآن إبقاءُ الوضْع على ما هو عليه، والإغارة على هذه الجبهة أو تلك إذا تعرضت إسرائيل لهجومٍ من هذه الناحية أو تلك، أمّا الحلول الشاملةُ العنيفة أو التفاوُضية، فليست مطروحةً على الطاولة أو في الوعي. أمّا في الجانب العربي، فالمشكلة أعمَقُ وأَقْوى. ذلك أنّ التشدد الديني (والسياسي) ليس سببه المباشر تعذُّر "السلام العادل" مع الكيان. فحركةُ حماس ظهرت عام 1988. ومنذ ذلك الحين، بل وقبل ذلك، كان وعْيُ الإسلاميين متجهاً ضد الفصائل الفلسطينية الأُخرى اليسارية والقومية. وقد خاض المقاتلون الإسلاميون في التسعينيات حربَ انتحارياتٍ ضد إسرائيل؛ وبحجتين متوازيتين: ضرورة تحرير فلسطين كلّها لأنها وقْفٌ لا يجوز التنازُل عنه أو عن جزءٍ منه، وأنّ الكفاح الفلسطيني الآخر بالقتال أو بالسياسة والدبلوماسية؛ هو في الأساس غير إسلامي وغير مشروع؛ إن لم نَقُلْ أكثر. وكلُّنا نعلمُ مآلات هاتين الحجتين، أو مآلات تصرُّفات الطرفين الفلسطينيين الرئيسيَّين: "حماس" و"فتح"؛ فقد فازت الأولى بانتخابات عام 2006، وكان دخولها الانتخابات في ظلّ "أوسلو" يعني أنها تقول، مُواربةً على الأقلّ، بالحلّ السياسي. لكنّ الدوليين لم يسلِّموا بوصول "حماس" للسلطة، ومثلهم "فتح" والدول العربية التي ما تصرفت جميعها بشكلٍ طبيعي واحتضاني تُجاه "حماس"، وانتهى الأمر باستيلاء الأخيرة على غزة، ونشوب صراع بين فصائل منظمة التحرير، و"حماس" والفصائل المتحالفة معها، وما يزال الصراع ناشباً وكارثياً حتى بعد الحرب الإسرائيلية على غزة! إنّ مشكلتنا الآن، هي أكبر من مشكلة الكيان الصهيوني مع اليمين الديني والسياسي. فإسرائيل لا تُعاني من الانقسام بين أحزابها المعتدلة والأخرى المتطرفة، وهم لا يتقاتلون يومياً كما يحدث بين الفلسطينيين. فـ"حماس" ما نسيت خصومتها مع "فتح" حتّى تحت النيران الإسرائيلية، ولستُ أحسبُ أنّ باراك أو ليفني -وإن خسرا رئاسة الحكومة- سليجآن إلى العنف ضد نتانياهو وليبرمان! وبعبارةٍ أُخرى فإنّ لدينا انقساماً فلسطينياً داخلياً سببُه الصراعُ على السلطة والسيطرة، هو أعمقُ من الصراع بين الشعب الفلسطيني والكيان الصهيوني. لذا فلن يفيد في شيء التحجج بالتطرف الإسرائيلي أمام المجتمع الدولي؛ بل لا بُدَّ من التركيز على توحيد صفوف الفلسطينيين، وليس لمواجهة التطرف الإسرائيلي وحسْب؛ بل ولتحقيق أمرين: تخفيف الآلام عن الشعب الفلسطيني الذي صار يواجه النيران من جهتين أو ثلاث جهات. والأَمْرُ الآخَرُ تمكينُ الفلسطينيين والعرب من خلال التهدئة الداخلية من الانصراف لمراجعة أُمورهم وقضاياهُم بعد ستة عقودٍ على قيام الكيان في قلب الأمة وعلى أرضها. فقد خاض العرب خمس حروبٍ أو ستا، تارةً من أجل تحرير فلسطين، وتارة لتحرير أراضيهم المحتلة بعد عام 1967. والفلسطينيون يقاتلون بشتّى الأشكال منذ عام 1965، وما تحقّق شيء يُذكر؛ باستثناء إبقاء القضية حيّة وبتكاليف كبيرة. فحتّى الأرض التي يجلس عليها قادة "فتح"، والأُخرى التي تجلسُ عليها "حماس"، كانت حتى عام 1967 مع الأردنّ ومصر. وقد بلغ من تردّي الأوضاع وسوئها خلال معركة غزة الأخيرة، أنه بدا كأنما "حماس" تتصارع مع مصر على معبر رَفَح وليس مع إسرائيل. إنّ المراجعة الفلسطينية الشاملة مطلوبة لتقييم المرحلة التي انقضتْ منذ اتفاقيات أوسلو عام 1993. وهي مطلوبةٌ لتقييم إمكانيات وعمل منظمة التحرير. كما أنها مطلوبةٌ لتقييم نهج وتكتيكات الكفاح المسلَّح الذي تقودُهُ "حماس"، ولا يتخلَّى عنه الفلسطينيون الآخَرون. ويمكن في الجدال الداخليّ الاحتجاج لهذا الخيار أو ذاك. لكنّ الواقع أنّ النهجين ما حقّقا شيئاً ملموساً، بل ما زادا الأمن والأطمئنان لدى الشعب الفلسطيني، ولا فتحا الأمل والأُفُقَ باتّجاه المستقبل. أمّا العربُ، وبدلاً من الانشغال بأعمال الإغاثة وإعادة الإعمار وحسْب؛ فعليهم التفكير والتقدير والتأمُّل فيما مضى وفيما هو قادم. فالقرارات الدولية ما نُفّذتْ إلاّ بشكلٍ جزئيٍ وكيفي، ومن خلال العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل والطرف العربي المعْني (مصر والأردن ومنظمة التحرير)، وليس من خلال مجلس الأمن والمؤسسات الدولية. والمجتمع الدولي يحتج مرةً بإعراض ياسر عرفات، ومرةً بتطرف "حماس". أما المسألة الأصلية المتعلقة بحقّ تقريرالمصير، وحقّ عودة اللاجئين؛ فلا نسمعُ الكثير عنها منذ مدريد وأوسلو. وقد قال العاهل السعودي في قمة الكويت إنّ المبادرة العربية للسلام لن تبقى على الطاولة إلى الأبد. لكن ما هي الخياراتُ الأُخرى إذا بقيت القرارات الدولية (الأرض مقابل السلام) دون تنفيذ؟ وكيف يمكن التعامُلُ مع المجتمع الدولي بعد زوال إدارة بوش التخريبية؟ ثم إنّ العرب يُعانون من مُشكلاتٍ مع جوارهم الإقليمي، انفجرت في الأعوام الأخيرة، وعلى وقْع الهجوم الأميركي عليهم أيضاً: كيف يمكنُ التفكير فيها ومقاربتها؟ وأخيراً وليس آخِراً لدينا مشكلةٌ مع إسلاميينا الثوريين، العنيفين وغير العنيفين، وبعضهم يريد المشاركة، والبعض الآخَر يريد الأنفراد والتفرد. وما عادت المشكلة داخلية، بل صارت في وجهٍ من وجوهها متّصلةً بالعلائق بين العرب، وفي وجوهٍ آخرى مع الجوار والعالَم. إنّ حُجج التطرف في مواجهة التطرف قد تُفيدُ في التحليل أو في الدعاية، لكنها لا تُفيدُ في الخروج من المأزق. والمأزق فلسطينيٌ عربيٌّ داخليٌّ، وإن تكن له تداعياتٌ إقليميةٌ ودوليةٌ.