عندما تزور وزيرة الخارجية الأميركية "هيلاري رودهام كلينتون" آسيا الأسبوع القادم، فإنها ستكون قد غيرت مسار السياسة الخارجية الأميركية بشكل جوهري وعميق في آن. فـالاتجاه إلى"عرقنة" السياسة الخارجية الأميركية في إدارة بوش، كان هو السمة البارزة في التفكير الاستراتيجي للولايات المتحدة خلال السنوات الثماني من حكم تلك الإدارة بشكل أدى إلى تقويض وضعها في مختلف أنحاء العالم. وفي الوقت الذي يتحول فيه اتجاه تيارات القوة من الغرب إلى الشرق، تجد الولايات المتحدة نفسها عالقة في الرمال، وغير قادرة على التحرك. ولا شك أن قرار "هيلاري" بأن تكون آسيا هي وجهة أول خارجية لها يبرز الأهمية الجيوـ سياسية المتنامية للمنطقة، والرغبة القوية لدى واشنطن في إعادة التوازن لانخراطها في الشؤون العالمية. ومما يشار إليه في هذا الصدد، أن وجهة تسعة من بين آخر عشرة وزراء تولوا حقيبة الخارجية الأميركية كانت ابتداءً أوروبا أو الشرق الأوسط، ولم يقم سوى واحد فقط هو "جورج شولتز" الذي خدم في إدارة ريجان، بكسر هذا التوجه عندما اختار البدء بزيارة الأميركتين. وعلى رغم التشكك الذي أبداه المنتقدون بشأن قرار هيلاري، فإن هذا المؤشر يدل في الحقيقة على فهم استراتيجي حاد للديناميات المتغيرة للقوة العالمية، وخصوصاً أن هذه الزيارة تأتي في وقت يتصف بقدر هائل من عدم اليقين في آسيا، كما أن هذا التوجه يخدم ثلاثة أهداف استراتيجية: الهدف الأول، أن هذه الزيارة ترسل إشارة قوية مؤداها أن الرئيس أوباما ينوي لعب دور فاعل في آسيا. فمن عدة نواحٍ، يمكن القول إن احتلال أميركا للعراق كان هو العامل الأهم الذي ساعد على حدوث ذلك التدهور المتنامي في مكانة أميركا في المنطقة. كما أن عدم اهتمام واشنطن وإهمالها لآسيا، كما يتجسد بشكل واضح في غياب وزيرة الخارجية السابقة "كوندوليزا رايس" المتكرر عن الاجتماعات الوزارية رفيعة المستوى، أتاح الفرصة للصين لتحسين صورتها بإظهار أنها الطرف الذي لا يتردد في تقديم المساعدة عندما تكون هناك حاجة إليها، كما مكنها أيضاً من كسب المزيد من رأس المال السياسي بين الحلفاء الإقليميين. وليس هناك شك في أن زيارة "هيلاري" تعد دليلاً على تقدير الإدارة الأميركية الجديدة للثقافة الدبلوماسية الآسيوية التي تثمن الظهور والحضور الشخصي، وتقلل من شأن الاشتغال على القضايا من بعيد، وهو تقدير لاشك أنه يمثل عاملاً حيوياً في المساعدة على بلورة سياسة خارجية أميركية أكثر توازناً. والهدف الثاني، من المتوقع أن تساعد هذه الزيارة على التخفيف من عوامل القلق الإقليمي، وسط الجو الحالي من عدم اليقين الاقتصادي والسياسي، وخصوصا ًبعد أن أدت الأزمة المالية الحالية إلى تداعيات واسعة النطاق على قارة آسيا التي تعتمد اقتصاداتها على التصدير إلى الخارج الذي تأثر إلى حد كبير بسبب تشبع الأسواق الخارجية بالسلع ونقص الطلب على سلع جديدة. ومما يفاقم من درجة عدم اليقين المالي كذلك لدى دول القارة التحديات الأمنية الماثلة في الأفق التي يمكن أن تساعد على إشعال الصراعات بل والحروب أيضاً. فالنزاعات ما بعد الكولونيالية على الحدود المائية في المحيط الهادي بين دول المنطقة، لا تزال تواصل دورها في توتير العلاقات بين اليابان، وكوريا الجنوبية، والصين. وهناك مصادر أخرى للتوتر في المنطقة منها على سبيل المثال لا الحصر البرنامج النووي الكوري الشمالي، والتنامي المستمر في القوة العسكرية الصينية. فهذان الموضوعان يمثلان همين أمنيين تقليديين، يمكن أن يؤديا -في حالة عدم معالجتهما بالشكل الصحيح- إلى إشعال نيران الحرب. وهناك أيضاً العديد من التحديات الأمنية غير التقليدية المتنامية التي تواجه المنطقة مثل الراديكالية في جنوب شرق القارة، والتغير المناخي، والأمراض الوبائية، وكلها تحديات يمكن أن تؤدي إلى تأجيج نزاعات قائمة أو إثارة نزاعات جديدة. والهدف الثالث والأخير، أن الولايات المتحدة تسعى إلى الانخراط في حوار هادئ مع المسلمين في جنوب شرق آسيا وحول العالم بعد أن أدركت من واقع تجارب الإدارة السابقة أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي لمواجهة الإرهابيين وأيديولوجيتهم الراديكالية. وقرار هيلاري بالذهاب إلى إندونيسيا التي تعتبر أكبر دولة إسلامية من حيث تعداد السكان، يبرز في حد ذاته مدى جدية أوباما بشأن تعزيز دبلوماسية الولايات المتحدة العامة وجهودها الرامية للتواصل مع العالم الإسلامي، كما يؤشر أيضاً على مدى جدية سعي أميركا لإحداث تحول كبير في مقاربتها للحرب العالمية على الإرهاب. وليس سراً أن وزيرة الخارجية الأميركية الجديدة تكن إعجاباً لا حد له لوزير الخارجية الأميركي الأسبق "جورج شولتز". ومثلما كان قرارها بأن تكون أول زيارة خارجية لها إلى القارة الآسيوية محلاً للسجال والجدل، كذلك كان قرار شولتز أن تكون زيارته الأولى إلى الأميركتين. فهذا القرار كان في حينه موضع انتقاد الدوائر السياسية والإعلامية في واشنطن التي رأت حينها أنه يعكس قدرة محدودة على القراءة الاستراتيجية لأُطر الحقائق الجيو- استراتيجية للحرب الباردة. ولكن الذي حدث في النهاية، هو أن أشد منتقدي شولتز قد تحولوا ألى أكبر المعجبين به وذلك عندما راح الرجل ببراعة واقتدار يهندس لعملية السقوط السلمي للإمبراطورية السوفييتية ولنشر القيم الأميركية في العالم. إن جولة هيلاري الآسيوية تمثل روحاً دبلوماسية جديدة ترى أن آسيا مليئة بالفرص التي تسمح لأميركا بالتخلي الجريء عن سياسات قيدت حركتها، وتوجهات شوهت صورتها، كما تمكنها أيضاً من تحقيق مكاسب استراتيجية مهمة. نيرفال باتيل زميل بمركز الأمن الأميركي متخصص في الشؤون الآسيوية- الباسفيكية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"