في السادس من ديسمبر 2008، شاهدت حواراً في إحدى القنوات الإخبارية العربية تم توجيهه بشكل غير مباشر لمناقشة مستقبل الولايات المتحدة، دار معظمه حول إمكانية انهيارها وتفككها كدولة عظمى. كان الحوار يضم شخصيتين عربيتين أحدهما ينتمي إلى فلسطين والآخر إلى سوريا، حيث كان الأخير يطرح بحماس فكرة قرب انهيار الولايات المتحدة ويطرح أفكاراً ذات بعد أيديولوجي ابتعد به كثيراً عن الموضوعية التي من المفترض أن تتسم بها الحوارات التي تناقش أموراً مهمة. بالنسبة لموضوع انهيار الولايات المتحدة مستقبلاً، يوجد أمران: أولاً، أن كل من يطرح فكرة قرب انهيار الولايات المتحدة وتفككها أو حتى مجرد انحسار نفوذها قريب المدى عن ساحة التأثير في الشؤون العالمية، يعتبر في اعتقادي غير ملم بالثقافتين الشعبية والسياسية للإنسان في الولايات المتحدة. فالمواطن الأميركي العادي لا يحمل فكراً من أي نوع يدعو إلى انفصال الولايات عن بعضها بعضاً، ولا الرغبة في استبدال النظام الاتحادي القائم حالياً بنظام آخر تشكل فيه الولايات المختلفة دولاً مستقلة ومنفصلة عن بعضها بعضاً. وهذه حقيقة راسخة يعرفها كل من عاش داخل المجتمع الأميركي واحتك به وعايش المواطن الأميركي عن قرب. إن فكرة التآمر على النظام الاتحادي القائم لتفكيكه وإسقاطه فكرة غير واردة مطلقاً، ويعلم كافة أفراد الشعب الأميركي أن قوة بلادهم ومنعتها وعظمتها تنبع من اتحاد ولاياتها مع بعضها بعضا بقوة، وأن زوالها كدولة عظمى وحيدة يكمن في تفككها. ثانياً، أن فكرة التنبؤ بالأفول الأميركي ليست جديدة، بل هي قديمة بقدم عمر الولايات المتحدة، وعادة ما ينحني أبناء الشعب الأميركي أمام أي رياح قوية تهب على بلادهم لكي تنذر بقرب انهيارها، وذلك قبل أن يصدق أي نوع من تلك التنبؤات، وعادة ما يخرج الأميركيون من المحن وهم أكثر إيماناً بأنهم قادرون جداً على تجاوز مشاكلهم بسبب قدراتهم الراسخة والعجيبة على إعادة ابتكار أنفسهم من جديد والخروج بصور جديدة من تغيير الذات إلى الأفضل في سبيل ترسيخ دعائم الاتحاد القائم. وهنا يلاحظ أن الابتكارات القيمة الجزئية تظهر بشكل منتظم في كافة أقطار العالم، ولكن الابتكارات الكلية الكبرى هي أمور تحتكرها الولايات المتحدة؛ لأنها ظاهرة من اختراعها وحدها دون غيرها من أمم الأرض. إن من يتحدثون عن قرب انهيار الولايات المتحدة كدولة عظمى يستعينون بخمسة شواهد هي الحرب في العراق، والحرب في أفغانستان، وعدم القدرة على وقف الإرهاب العالمي، وعدم القدرة على وقف إيران من المضي قدماً في برامج تسلحها النووي، وأخيراً الأزمة المالية الخانقة التي يمر بها اقتصادها هذه الأيام. والأمور الأربعة الأولى كثر الحديث عنها منذ أحداث 11 سبتمبر2001، ولكن الأزمة الاقتصادية الحالية هي المستجد وهي التي تثير قلق الشعب الأميركي وحكومته ومنظومة المال والأعمال العاملة في البلاد. الإنسان الأميركي محب لتملك الأشياء الخاصة، خاصة المنزل الذي يعيش فيه، وهو عوضاً عن أن يدخر يقوم بالاقتراض من البنوك ومن مؤسسات التمويل الأخرى. والاقتراض في الفترة الماضية كان سهلاً جداً؛ لأن قيمة العقارات استمرت في الارتفاع، وهي كانت ترتفع ليس لأن قيمتها الفعلية كذلك، ولكن بسبب عملية الاقتراض ذاتها التي تم التوسع فيها بدرجة كبيرة إلى أن وصل حجم الفقاعة إلى ذروته فانفجرت في نهاية المطاف. ولأن أسعار المنازل المنهارة لم تكن قادرة على ضمان ديون تمويل العقارات التي وصلت إلى تريليونات الدولارات، فإن المقرضين وصلوا إلى حالة الشلل. ونتج عن ذلك أن معظم شركات التمويل، ومؤسسات الاستثمار، وبنوك التجزئة التي يفترض أن تكون أكثر أماناً، أصبحت خاضعة لنقصان السيولة، فانهارت أسهمها إلى الصفر في بعض الحالات أو أنها أجبرت لكي تستولي عليها البنوك الأكبر منها التي منحتها قروضاً ضخمة، وهكذا أصبحت المسألة كالحلقة الدائرية، التي تتوالى عناصرها في التأثير على أجزائها الواحدة تلو الأخرى، وهي تدور في حلقة مفرغة. مايحدث للولايات المتحدة حالياً من أزمات لن يدوم طويلاً، ومن يظن أنها ستنهار قريباً بسبب ذلك فهو مخطئ في تحليله، فالولايات المتحدة عملاق اقتصادي وعسكري، ولديها شعب فيه عناصر عدة من صلابة الإرادة والتصميم على الفعل الخلاق مما يجعل البلاد كالقلعة الحصينة، التي قد يؤثر المنجنيق في سورها الخارجي ولكنه لن يهدمها عن بكرة أبيها. والدليل على ذلك أن عامة الأميركيين يتحدثون الآن بكل صراحة عن مشاكل البلاد ويناقشونها ويحللونها ويطرحون الحلول المناسبة لتجاوزها، لكنهم لا يتحدثون مطلقاً عن قرب انهيار الدولة وتفكك المجتمع، بل على العكس من ذلك يتحدثون عن الرغبة الشديدة في تجاوز المشاكل وعن الإصرار والتصميم للمحافظة على وحدة البلاد. هذه هي حال الولايات المتحدة من الداخل، وليقل الفرحون بقرب انهيارها في الخارج ما يقولون، فهي تقف حتى الآن كالجبل الذي لا تهزه الريح.