ألقت حرب غزة بظلالها الكثيفة على إدارة أوباما الجديدة عندما كانت لم تخرج بعد من مرحلتها الانتقالية ولم تتولَ مهامها في البيت الأبيض، لكن الحرب وتداعياتها المدمرة تبهت بالمقارنة مع نتائج الانتخابات الإسرائيلية التي جاءت لتضيف صعوبات أخرى لإدارة أوباما وتثقل كاهلها بأعباء إضافية، وتعيق تطبيق الخطوط العريضة للسياسة الأميركية الخارجية، لا سيما فيما يتعلق بملف السلام في الشرق الأوسط الذي تسعى واشنطن إلى بث الحياة في أوصاله المتجمدة. فقد بات واضحاً بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية في الدولة العبرية صعود التيارات "اليمينية" المتشددة وظهور ميل عام لدى الإسرائيليين تجاه الأحزاب والتنظيمات السياسية التي لا تراهن على السلام مع الفلسطينين بقدر ما تريد تأزيم الموقف ليتزامن ذلك مع ما تقوم به إدارة أوباما لحلحلة الوضع الراكد في الأراضي المحتلة والتوصل إلى سلام يرضي طرفي الصراع. وأمام المستجدات التي فرضتها الانتخابات الإسرائيلية على الساحة، سيكون على أوباما وأركان إدارته التعامل مع حكومة إسرائيلية "يمينية" تتعارض أجندتها كلياً مع رؤية أوباما لإدارة الصراع وتسوية القضية الفلسطينية في الوقت الذي وضعها فيه على رأس أوليات سياسته الخارجية. وبالرجوع إلى الانتخابات الإسرائيلية والخريطة المتداخلة والصعبة التي أفرزتها، نجد أن حزبي "كاديما" بزعامة تسيبي ليفني و"العمل" برئاسة إيهود باراك، قد خاضا حرب غزة خصيصاً لتعزيز موقفهما الانتخابي وإيصال رسالة واضحة إلى الناخبين مفادها أنهم لا يقلون عنفاً مع الفلسطينيين عن الأحزاب "اليمينية" الأخرى، ولا سيما حزب "الليكود" الذي ينافسهما على مقاعد الكنيست. لكن الناخب الإسرائيلي على ما يبدو فضل الأصل على النسخة، وصوّت لصالح الأحزاب "اليمينية" المعروفة بمواقفها المتطرفة والعدائية تجاه الفلسطينيين، فطالما أن الحكومة الحالية سعت إلى استمالة الناخبين بإظهار بطشها في التعامل مع الفلسطينيين وإبرازهم على أنهم لا يفهمون سوى لغة العنف، قرر الناخب الإسرائيلي التصويت لمن يتبنى مواقف أكثر تطرفاً مادامت حلبة السباق اقتصرت على السياسات "اليمينية" وضاقت على ما سواها، ومادام السلام في خطاب الأحزاب الإسرائيلية الرئيسية لم يحظَ بالاهتمام المطلوب ونادراً ما كان يُشار إليه كجزء من البرامج السياسية للأحزاب المتنافسة. وهكذا جاءت تسيبي ليفني في المرتبة الأولى بفارق مقعد واحد في الكينست بعدد مقاعد وصل إلى 28 مقعداً مقارنة مع 27 لصالح حزب "الليكود" الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو، فيما كانت المفاجأة صعود نجم الحزب المتطرف "إسرائيل بيتنا" وزعيمه "أفيجدور ليبرمان"، الذي حصل على 15 مقعداً متقدماً على حزب "العمل" العريق بعد تراجعه التاريخي إلى المرتبة الثالثة في لائحة الأحزاب الإسرائيلية بعدد مقاعد لا يتجاوز 13 مقعداً. وفيما حصل حزب "شاس" الديني لليهود الشرقيين على11 مقعداً، لم ينل حزب "ميرتس" اليساري، والذي كان الوحيد من بين الأحزاب الإسرائيلية المعارض لحرب غزة سوى ثلاثة مقاعد في الكنيست الإسرائيلي. وبالطبع، يُعتبر الصعود اللافت، وإن كان غير مفاجئاً، لحزب "إسرائيل بيتنا" في الانتخابات الأخيرة مصدراً حقيقياً للقلق بالنظر إلى مواقف زعيمه، "أفيجدور ليبرمان" تجاه الفلسطينيين وخطابه العنصري الواضح إزاءهم، حيث سبق أن طالب بطرد الفلسطينيين داخل إسرائيل مع أنهم أقدم منه وجوداً على الأرض التي لم يهاجر إليها إلا قبل عشرين عاماً. والأكثر من ذلك كان حزب "إسرائيل بيتنا" أحد أهم مؤيدي الحرب على غزة، بل طالب باستمرار الحملة العسكرية حتى تسقط "حماس"، وللأسف كان لهذه المواقف العنصرية والديماغوجية دوراً فاعلاً في حشد أصوات الناخبين ودفعهم للتصويت لصالحه. والحقيقة أن خطاب "ليبرمان" لا يختلف عن العبارات التي تلفظ بها الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد، عن محو إسرائيل من الخريطة في إلهابه لعواطف الناس، بل وصل الشبه بين الرجلين إلى حد التهديد بالسلاح النووي، إذ في الوقت الذي فُهم من تصريحات الرئيس الإيراني أن بلاده قد تلجأ إلى محو إسرائيل بقنبلة نووية، كان "ليبرمان" واضحاً في مطالبته بإنهاء الصراع في غزة بالطريقة نفسها التي أنهت بها أميركا الحرب في اليابان، وكل ذلك دون أن يحرك العالم الغربي ساكناً. فحسب "ليبرمان"، لن يقود مسلسل السلام إلى الحل وهو الموقف ذاته لحزب "الليكود" وحزب "شاس" للمتدينين الشرقيين مما يجعل من احتمال انتشار هذا التصور في عموم الساحة السياسية الإسرائيلية في المرحلة المقبلة أمراً وارداً ليهدد جهود السلام الأميركية والدولية في المنطقة. وفي ظل الموافق المعنلة للأحزاب "اليمينية" وامتناعها عن التفاوض مع الفلسطينيين أو الدخول في مباحثات جدية تنتقل من الشكل إلى المضمون ومن مجرد الحديث إلى التطبيق، يُتوقع استمرار الاستطيان بوتيرته الحالية واستكمال بناء الجدار العازل لقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية والقضاء على مشروع الدولتين. وهكذا ستكون الحكومة الإسرائيلية القادمة حكومة ائتلافية هشة معرضة لابتزاز دائم من الأحزاب "اليمينية" الأكثر تطرفاً في المشهد السياسي الإسرائيلي بمواقفها التي يصعب تسويقها دولياً، والحقيقة أن دور المجتمع الدولي سيصبح أكثر إلحاحاً في ظل الجنوح الإسرائيلي الواضح نحو "اليمين" بممارسته الضغط على الزعماء السياسيين والكف عن لعب دور المتفرج العاجز عن فرض إرادته لإحلال السلام في الشرق الأوسط. فمن دون تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، سيبقى الصراع مستمراً مسمماً العلاقات بين الغرب والعالمين الإسلامي والعربي ومصدراً للتطرف والراديكالية التي قد تهدد الأمن القومي لأوروبا والولايات المتحدة، بل أصبح الصراع محرضاً رئيسياً للصدام بين الحضارات وسبباً في تأجيج الحروب؛ لذا سيكون من الحماقة ترك الأمور في إسرائيل بيد مجموعة من المتطرفين تروج علناً لطروحات عنصرية تتنافى وروح العصر. وفي هذا السياق، يبرز الدور الأوروبي في كبح جماح التطرف الإسرائيلي باعتبار أوروبا الشريك التجاري الأول للدولة العبرية، حيث تستطيع وضع سقف لما يمكن قبوله وما لا يمكن التغاضي عنه، ولعلنا مازلنا نذكر أنه قبل سنوات قام الاتحاد الأوروبي بعزل النمسا، وهي العضو في الاتحاد بعد دخول حزب "يميني" معروف بعنصريته وكراهيته للأجانب بزعامة "يورج هايدر" إلى الحكومة، فكيف سيتصرف الاتحاد الأوروبي في حال شاركت الأحزاب "اليمينية" الأكثر تطرفاً في الحكومة الإسرائيلية القادمة؟ وماذا سيكون موقف أميركا التي من دون ضماناتها الأمنية ودعمها المستمر لن تستطيع إسرائيل البقاء؟ أليس من المفارقة أن تبدو واشنطن عاجزة عن ممارسة الحد الأدنى من الضغط على حليفتها الأوثق في الشرق الأوسط، وأن تتحول الدولة العبرية من طالب للحماية إلى فارض لأجندته على أميركا نفسها؟ لكن ما دامت إسرائيل تشعر أنها فوق العقاب دولي وتستطيع الإفلات بممارساتها دون رقيب فلا يوجد ما يضطرها لإظهار بعض الاحترام إزاء الفلسطينيين.