في كتاب "التربية والعولمة"، يتصدى الدكتور مجدي عزيز إبراهيم، الأستاذ بكلية التربية في جامعة المنصورة بمصر، لتساؤل كبير هو الآتي: "هل يمكن لتجليات التربية أن تقابل تحديات العولمة؟". وأهمية هذا السؤال تأتي من واجب التربية في مواجهة المصاعب والتوترات المصاحبة للعولمة، لذلك نجد الكتاب الذي نعرضه هنا يوجه كل اهتمامه لإبراز الدور المهم للتربية في مواجهة التوحش المعنوي والمادي للعولمة، من خلال التعريف بالتربية ودورها في مجتمع المعرفة وتحديثها بما يواكب عصر العولمة، ووظيفتها الحيوية في إدارة المعرفة وتحقيق مبادرات التغيير والإصلاح، وتفعيل حوار الثقافات ومقابلة التنوع الثقافي وتطوير التعليم وإدارة التفكير. والتربية في تعريفها العام، كما يوضح المؤلف، عملية اجتماعية تساعد الفرد على التكيف والتفاعل مع بيئته، وفق احتياجات نموه المادي والمعرفي والمعنوي. كما تسعى إلى إصلاح البيئة الاجتماعية لهذا الفرد، وإلى إخضاع البيئة الطبيعية لإرادته، وتنمية مواردها حسب حاجاته وأهدافه. وباختصار فالتربية، أولا وأخيراً، تسعى إلى إعداد الفرد للحياة في بيئة يتوافق وإياها توافقاً ناجحاً ومرناً وفعالا وإيجابياً، في عالم تتكاثر تحدياته وأوجه التناقض والتوتر فيه يوماً بعد آخر. وهكذا فالتربية عملية دينامية حية ومتطورة، لكنها نظام أو مجموعة أنظمة وأنساق في بلد معين، تتأثر بما يسوده من عوامل ثقافية وطبيعية. وأي تطور في النظام التربوي إنما يكون في ارتباط بتلك العوامل. ويضيف المؤلف إلى ذلك دور العوامل الفلسفية كموجه رئيسي للنظام التربوي، ذلك أن تخطيط السياسة التربوية يجب أن يلبي حاجات المجتمع وفق فلسفته الاجتماعية والأخلاقية والسياسية. ومن هذا التأطير النظري العام، ينتقل المؤلف إلى معاينة التحديات التي تواجهها التربية، وتتلخص في مسألتين: أولاهما تحويل التربية إلى قوة اجتماعية إيجابية، وذلك بتنشئة المواطن المتسلح بمعارف وخبرات ومهارات نوعية، والقادر على التصدي لمشكلاته كفرد وكعضو في مجتمع. أما المسألة الثانية فهي المدرسة ودورها كجزء من حياة الأمم المعاصرة وطريقة عيشها. وتندرج في هذا السياق عدة قضايا مثل مجانية التعليم، ونظام القبول في المدارس، والتوسع في إنشائها، وفرص التعلم، وعلاقة المناهج الدراسية بسوق العمل. ويقدم الكتاب شرحاً مستفيضاً حول العولمة؛ تجلياتها وتداعياتها، وأسطورة القوة الخارقة للعولمة، وقدرتها المتوهمة على تهشيم المجتمع، ثم يناقش موضوع "التربية في عصر العولمة". وبالطبع فإن الفلسفة الاجتماعية هي مناط الأهداف العليا للتربية دائماً، فهي في الدول المتقدمة تُعنى بالحفاظ على المستوى الحضاري ودفعه نحو آفاق أوسع للعولمة. وفي الدول النامية تحاول تفكيك نمط التخلف السائد فيها، للاستفادة من منجزات العولمة ومكتسابتها. وعامة فإن الخيار الأساسي للتعليم يجب أن يكون هو الاستفادة من التقدم التقني والعلمي، وصناعة المعلومات، وغير ذلك مما توفره العولمة. لكن الأفكار والمعارف والمهارات، في عصر العولمة، دائمة التغير وسريعة التبدل، وكثيراً ما تختفي وظائف ومهن وتخصصات، لتظهر غيرها. لذا ينبغي على المناهج التربوية والتعليمية إكساب المتعلم أساليب المناقشة والحوار والاكتشاف والتعلم الذاتي... كطرائق لتغيير سلوكه وفقاً للظروف الموضوعية وشروط التفاعل العقلاني. وإلى ذلك يشكل جدل العلاقة بين العولمة والهوية تحدياً آخر للتربية، يتوقف عنده المؤلف. فالعولمة حقيقة قائمة، لا خيار غير التكيف معها، دون خوف على الهوية الثقافية. وهنا يعتبر المؤلف أن ما يهدد هويتنا ليس العولمة وتداعياتها الماثلة، بقدر ما هو الأزمة الذاتية التي تعانيها هذه الهوية. وبشكل عام فمسؤولية النظام التربوي في الاستجابة لتحديات العولمة ومواكبتها، تقع على النظام التعليمي، وذلك لأهميته في تجاوز معضلة الهوية في صيغتها التي طالما شكلت عائقاً أمام التطور، وفي القضاء على داء الأمية، وتخريج نخبة فكرية مستنيرة ومنفتحة، وتكوين مواطن قادر على الاستفادة من التقدم العلمي والتقني، وعلى الإبداع في مجال تكوينه... أي تحقيق نمط الحياة المعاصرة في مجتمع المعرفة. وخلاصة القول، في نظر المؤلف، هي أن قدرات الإنسان وملكاته الموجهة نحو مشاكل بيئته القريبة، أصبحت عُدة عاجزة عن العمل فيما يتصل بوضعه المعاصر. ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك العجز غير العقل البشري وقد تم شحذه عن طريق التربية والتعليم. فإتقان التجريد المعرفي والتفكير التأملي الخلاق، يمكن أن يعوض عيوب أو نقائص الإدراك الحسي، سبيلا إلى تسهيل التعامل مع مشكلات التنمية ومعضلات العولمة. وفي مجال آخر، يتطرق المؤلف إلى تحديث الفكر التربوي، أي الحاجة إلى جعله مواكباً لمتطلبات عصر العولمة، معتبراً أن ذلك التحديث هو نقطة البداية في عملية إصلاح التعليم، وفقاً لمتطلبات التنافسية في عصر العولمة. ويؤكد المؤلف بصفة خاصة على الديمقراطية كمنهجية لتحديث الفكر التربوي، ذلك التحديث الذي يقوم على دعامتين: الإرادة والإدارة، وكلاهما يفترض إعداد كوادر تربوية جديدة تتحمل مسؤولية تحديث الفكر التربوي وإدارة مجتمع المعرفة في عالم متغير. وبقدر ما يلح المؤلف على أهمية دور التربية في تجذير أفكار حوار الحضارات في ظل العولمة، فهو يؤكد على الحاجة إلى أنسنة التربية، وذلك بتعظيم سلطة الثقافة، أي جعلها بالنسبة لكل إنسان مرجعية في السلوك والمواقف ومنهجيات التفكير... للحد من غلواء العولمة وجموحها نحو التنافسية المادية البحتة. محمد ولد المنى ------------- الكتاب: التربية والعولمة المؤلف: د. مجدي عزيز إبراهيم الناشر: عالم الكتب تاريخ النشر: 2008