في كتابه "الفشل الذريع"، قدم "توماس ريكس" تقييماً شفافاً ودقيقاً لحرب العراق ملخصاً ببراعة فائقة الأخطاء السياسية والعسكرية التي قادت الولايات المتحدة بعد ثلاث سنوات من الاحتلال إلى وضع بالغ الحرج. وقد أرخ المؤلف في هذا الكتاب، اعتماداً على التقارير التي كان يرسلها من أرض المعركة في العراق، وعلى مصادره العديدة داخل المؤسسة العسكرية، للأحداث التي سبقت وصاحبت غزو أميركا لذلك البلد، كما أوضح الكيفية التي أدت بها الافتراضات الخاطئة، والإخفاقات الرهيبة في التخطيط وغرور القوة، إلى ذلك "الاحتلال المتداعي" الذي أدى بدوره إلى تمرد تزداد نيرانه تأججاً على الدوام. وفي كتابه الجديد "المقامرة: الجنرال ديفيد بيترايوس والمغامرة الأميركية العسكرية في العراق 2006ـ 2008"، والذي نعرضه هنا، يستكمل المؤلف ما توقف عنده في كتاب" الفشل الذريع"، ويبدأ كتابه ببيان الكيفية التي وصل بها العراق إلى نقطة التفكك عام 2006، والكيفية التي اضطرت بها إدارة بوش في نهاية المطاف إلى الاعتراف بأنها قد ضلت الطريق، وكيف قامت مجموعة جديدة من القادة يرأسها الجنرال "ديفيد. إتش.بيترايوس" والليفتنانت جنرال "ريموند تي. أودريانو" بوضع استراتيجية عسكرية جديدة في العراق. ويوضح المؤلف أن هذه الاستراتيجية الجديدة التي عرفت باستراتيجية "زيادة عدد القوات" لم تكن عبارة عن مجرد زيادة لعدد القوات فحسب، وإنما تضمنت تكتيكات جديدة في مقاومة التمرد تعتبر حماية السكان المدنيين أولوية لها، ولا تتردد في إتباع مقاربة براجماتية في التعامل مع المتمردين عند الضرورة. وهو يبين أيضاً كيف نجحت تلك الاستراتيجية على الأرض، وكيف مثلت نقطة تحول حاسمة في مسار القتال في العراق، ومهدت للقضاء على تنظيم "القاعدة في بلاد الرافدين" الذي حرض على الحرب الأهلية بين الشيعة والسنة. ويشار إلى أن هذا الكتاب كان قد أرسل للمطبعة قبل الانتخابات الأخيرة في العراق التي تمت في سلام إلى حد كبير، والتي يتوقع أن تسفر نتائجها التي لم تذع رسمياً حتى الآن عن تقوية أحزابها العلمانية والوسطية، وهو أمر لم يكن أحد يتخيل حدوثه في العراق قبل أعوام قليلة ماضية، وهو ما يرجع الفضل فيه لتلك الاستراتيجية. ويحذر المؤلف من أن هدف الولايات المتحدة الحالي في تحقيق "الأمن المستدام" والذي يعتبر أكثر تواضعاً بكثير من هدف الإدارة السابقة الذي كان مبالغاً فيه إلى حد كبير، والمتمثل في خلق عراق مستقر، وديمقراطي، وموال للغرب، قد يتبين أنه هدف مراوغ وصعب التحقيق. ورغم أن "ريكس" يكتب في إحدى فقرات كتابه أنه يشعر بالحزن والأسى بسبب الأكلاف الباهظة للحرب التي تكبدها العراقيون والأميركيون على حد سواء، بسبب انعدام الكفاءة والسفه الشديد لإدارة بوش،فإنه يقول، مع ذلك، إنه توصل إلى استنتاج مؤداه أن الأميركيين لا يستطيعون مغادرة العراق حالياً بسبب التداعيات التي قد تترتب على ذلك والتي قد تفوق في خطورتها تلك التي ترتبت على انسحابهم من فيتنام، والتي يمكن أن تتراوح بين حرب أهلية كاملة الأوصاف قد تتخطى حدود العراق، وبين سيطرة إيران القوية على عراق ضعيف، أو وقوع العراق تحت سيطرة طاغية قد يكون نسخة أكثر دموية من صدام حسين الذي كان قد تحول مع قدوم الاحتلال إلى نمر عجوز بلا أسنان. ويشير المؤلف إلى أن البيت الأبيض في عهد بوش قد امتنع عن الاعتراف بأن مسار الحرب في العراق آخذ في التدهور، وأنه لولا انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر 2007، والتي انتقلت فيها الغالبية التشريعية لصالح "الديمقراطيين"، لما فكر البيت الأبيض من الأساس في إجراء تعديل جوهري على استراتيجيته، ولا في تعيين القادة الجدد الذين سيقومون بتنفيذها، ويحققون في ذلك نجاحاً كبيراً. ويعرض الكاتب للديناميات العسكرية المعقدة لاستراتيجية زيادة عدد القوات، والاحترافية والكفاءة اللتين تم تنفيذها بهما على الأرض. والإحساس الذي يتبقى لدى القارئ بعد الانتهاء من قراءة هذا الكتاب، هو تقريبا نفس الإحساس الذي تبقى لديه بعد الانتهاء من كتاب "الفشل الذريع"، وهو الإحساس بمدى جسامة التداعيات التي ترتبت على تلك الحرب السيئة التخطيط، وغير الضرورية، والتي لم يسبقها استفزاز، وتم شنها بعدد قليل من القوات، وبدون خطة استراتيجية شاملة، وكانت تمضي على نحو سيئ... ومع ذلك سُمح لها بالاستمرار ثلاث سنوات كاملة. ورغم التحسن الذي طرأ على الأوضاع الأمنية في العراق، وتطور العملية السياسية، فإن المؤلف يتوقع مع ذلك أن تتواصل هذه الحرب لسنوات قادمة لتتجاوز مدتها الثورة الأميركية وحرب فيتنام. وهو يقول في نهاية كتابه: "بصرف النظر عن الكيفية التي ستنتهي بها هذه الحرب، فإن هناك إجماعا بين عدد كبير من القادة والضباط الذين خدموا في العراق، مؤداه أن أميركا سوف تظل منغمسة في القتال هناك حتى عام 2015". ويضيف المؤلف إلى ذلك عبارة دالة هي: "إن الأحداث التي سيتم تذكر حرب العراق بها في المستقبل، لم تقع بعد". سعيد كامل ---------- الكتاب: المقامرة... جنرال ديفيد بيترايوس والمغامرة العسكرية الأميركية في العراق 2006ـ 2008 المؤلف: توماس ريك الناشر: بنجوين برس تاريخ النشر: 2009