كان من المحتم أن تؤدي متابعة وقائع أول مؤتمر صحفي يجريه الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض، إلى إجراء مقارنة ذهنية بين ما دار في ذلك المؤتمر وما كان يدور في مؤتمرات سابقة أقيمت على مدار السنوات الثماني السابقة. ولعل أول ما يمكن قوله في هذا الصدد هو أن هذا المؤتمر بدا مرْضياً إلى أقصى حد، وحافلاً بالمعلومات: فبدلاً من ذلك المزيج المكون من الهزل والغرور، والغطرسة، والتركيب المضطرب للجمل، الذي كان يتصف به سلفه، رأينا أوباما يقدم تحليلًا رصيناً، وعرضاً فصيحاً، وخصوصاً فيما يتعلق بالمشكلة الأولى التي تواجه الوطن في الوقت الراهن، أي الأزمة المالية. وبدلًا من القفشات المتكررة، ومناداة الصحفيين بأسماء التدليل الخاصة بهم، رأينا نقاشاً عملياً محترماً للآراء، وتبادلًا رصيناً للأسئلة والإجابات التي ترتبط في غالبيتها العظمى بموضوع المخاطر الاقتصادية التي تواجهها أميركا، الذي تناوله الرئيس الجديد من خلال تلخيصٍ وافٍ وتحليل افتتاحي متقن وبليغ. ومن خلال إجابات شاملة وواثقة، على 13 سؤالًا فقط في المؤتمر الصحفي الذي استغرق ساعة، تمكن أوباما بكفاءة عالية واقتدار تام، من السيطرة على المناسبة وإبقائها في مسارها الصحيح، من خلال التركيز على هدفه الأساسي المتمثل في كسب الشعب الأميركي إلى صفه، في أول صدام يقع بينه وبين الكونجرس. وفي مواجهة الرفض المبطن الذي قوبلت به مبادرته للتعاون بين الحزبين في الكونجرس (من قبل "الجمهوريين" بالطبع)، لم يتردد أوباما في الدفاع عن تلك المبادرة، ولفت في إطار ذلك النظر إلى السجل السيئ لمنتقديه في دعم بعض إجراءات الإدارة السابقة التي ساهمت في حدوث الأزمة المالية الحالية. وبشكل عام، يمكن القول إن أوباما قد نجح من خلال هذا المؤتمر في إظهار موهبته المتميزة في الاختلاف مع الغير دون أن يكون مكروهاً بسبب ذلك، وهو أسلوب كان قد غاب عن ذهن سابقه في المنصب على امتداد السنوات الثماني المثيرة للجدل من حكم إدارته. وكان الرئيس ذكياً للغاية في إشارته لتلك المسألة: فبدلاً من الاعتراف صراحة بعدم جدوى مسعاه في التواصل مع "الجمهوريين" المتمنعين وعد بأنه سيواصل جهوده من أجل تحقيق التعاون بين الحزبين. وفي الحقيقة أن أوباما استفاد من المقاومة التي أبداها "الجمهوريون" لفكرة التكامل الحزبي، ولخطته الاقتصادية الشاملة في الإنقاذ، في تسليط الضوء مجدداً على النقد الذي كان قد وجهه أثناء حملته لـ"أساليب واشنطن العتيقة"، وتصميمه على كسر ما كان قد وصفه في حينه بـ"الجمود الأيديولوجي" الذي كان سبباً في الشلل الذي أصاب الكونجرس في عدد كبير من الحالات. وعلى رغم استمرار أوباما خلال المؤتمر في الدعوة للتعاون الحزبي، إلا أنه سمح لنفسه بتوجيه بعض الانتقادات الحزبية لـ"الجمهوريين"، والمحافظين بوجه عام، مع الدفاع بقوة في الوقت نفسه عن التدخل الحكومي الواسع المدى في "وول ستريت" الذي يعتبر رمزاً مقدساً لا ينبغي المساس به في أذهان العديد من "الجمهوريين". وحول هذه الجزئية، قال أوباما: "إن بعض النقد ينصرف في الحقيقة للفكرة الأساسية التي تقول إن الحكومة يجب أن تتدخل في كل شيء في هذه اللحظة من لحظات الأزمة"، مضيفاً: "لدينا الآن بعض الناس، المخلصين جداً، الذين يعتقدون-من ناحية فلسفية ربما- أن الحكومة ليس لها شأن البتة في التدخل في آليات السوق... وليس هذا فحسب، بل إن الحقيقة هي أن هناك عديدين يرون أن الرئيس فرانكلين روزفلت كان مخطئاً عندما تدخل أثناء الكساد العظيم، وفرض ما نعرفه بـ(الصفقة الجديدة). وما أود قوله عن هؤلاء هو أنهم يخوضون معارك كنت أعتقد أنها قد حسمت منذ وقت طويل". في السطر الأخير كان أوباما يغمز من قناة الأعضاء المحافظين في الكونجرس، ومن بعض الصحفيين الذين سعوا خلال الفترة الماضية إلى التقليل من الدور الذي لعبه "روزفلت" في الحد من معدل البطالة، أثناء الكساد العظيم، والزعم بدلاً من ذلك أن دخول أميركا إلى الحرب العالمية الثانية، هو الذي أدى إلى تقليص نسبة البطالة آنذاك. على أن ذلك لم يحل بين أوباما وبين الاعتراف بأنه يوجد أكثر من سبب مشروع للاختلاف بين "الجمهوريين" و"الديمقراطيين" على تفاصيل حزمة التحفيز المالي التي اقترحها حيث قال: "إن السؤال الذي أعتقد أن الشعب الأميركي يوجهه لنفسه هو: هل ما نريده هو ألا تفعل الحكومة شيئاً، أم أن ما نريده هو أن تفعل شيئاً ما من أجل الخروج من الأزمة الحالية؟ فإذا ما كان هناك أحد يريد من الحكومة ألا تقوم بشيء فإنني أقول له إن ذلك لا يمثل خياراً". إن النجاح الذي حققه أوباما في هذا المؤتمر الصحفي، بقدر ما يرجع إلى صفاته الشخصية، فإنه يرجع كذلك إلى المجهود الذي بذله طاقم العاملين في البيت الأبيض في التنسيق لهذاالمؤتمر، والذي يمثل في حد ذاته درساً قوياً من دروس العلاقات العامة. ففي وقت مبكر من ذات اليوم الذي عقد فيه المؤتمر، طار أوباما إلى "إيلكهارت" بولاية إنديانا التي تعتبر من أعلى المناطق في نسبة البطالة -الآخذة في التزايد بخطى سريعة- حيث ارتفعت بها هذه النسبة من 4.7 في المئة إلى 15.3 في المئة خلال عام واحد فقط. وخلال وقائع المؤتمر ظل أوباما يشير إلى "إيلكهارت" من وقت لآخر كمثال على المحنة الطاحنة التي يواجهها أبناء الطبقة الأميركية المتوسطة الذين يطالبون الحكومة الآن بالتدخل من أجل إنقاذهم من تلك المحنة. -------- جويل ويتكوفر كاتبة ومحللة سياسية أميركية --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"