يعد البحث العلمي من أهم الركائز الأساسية التي لها دور مؤثر في صناعة مشروع النهضة وقوة الأمة وسرعة تقدمها، ولا يختلف أحد على دوره الفعال في تطوير المجتمعات الإنسانية والفكر الإنساني المعاصر وبخاصة العملية التجديدية والإبداعية. وغالبية الدول التي حققت مستوى عالياً من التقدم والنهضة، كانت تضع موضوع البحث العلمي في سلم أولوياتها وتضع البرامج الخاصة لرعاية ودعم العلماء. فمثلاً بريطانيا في القرن الثامن عشر لم تتقدم إلا بعد أن وضعت البحث العلمي والعلماء كأساس استراتيجي في مشروعها الحضاري، وهذا ما حدث مع فرنسا وألمانيا أيضاً حيث كان التنافس بينهم شديداً في هذا التوجه العلمي. وتنبهت أميركا إلى ذلك، فصارت تغري العلماء من كل مكان وخاصة الألمان، واستطاعت أن تستجلب منهم أعداداً كبيرة في مختلف التخصصات وتضع الخطط والاستراتيجيات البعيدة المدى وتنشئ الجامعات والمراكز العلمية والبحثية الضخمة لخدمة هذا الهدف الذي مكنها من قيادة العالم، وأن تكون الأولى في مجال البحث العلمي بميزانية تصل 280 مليار دولار، يليها الاتحاد الأوروبي 199 مليار دولار ثم اليابان 113 مليار دولار والصين بـ101 مليار دولار. وما يميز الصين أنها الدولة الوحيدة التي تضاعف ميزانية البحث العلمي كل 5 سنوات. ونجد ذلك أيضاً فيما يتعلق بالنشر العلمي وعدد براءات الاختراع، والذي أخذت السبق فيه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حيث تمثل منشوراتهما العلمية ثلثي عدد نظيراتها في العالم. إن ما حققته هذه الدول من تقدم ورقي وسيطرة، يرجع في أساسه إلى دقة ووضوح سياساتها العلمية والتقنية خاصة في موضوع تسخير البحث العلمي لخدمة التنمية. السؤال المهم هنا: أين نحن في العالم العربي من هذا التنافس العلمي العالمي السريع؟ الواقع يقول إننا لا زلنا في المؤخرة علمياً، وأقل الدول إنفاقاً على البحث العلمي، حيث ننفق 0.2% من الدخل القومي عليه، وهو ما يشكل واحداً على عشرة مما تنفقه الدول الغنية من دخلها القومي. ونفتقر إلى سياسة علمية وتقنية واضحة المعالم والأهداف، ليس لدينا مراكز بحوث متخصصة تتوفر فيها المعايير والمقاييس المعترف بها دولياً، ونفتقر إلى مختبرات علمية حقيقية، ولا توجد لدينا مجلات علمية مصنفة دولياً، خاصة في مجال العلوم الطبيعية، وتخلو التصنيفات العالمية للجامعات من اسم أي جامعة عربية، وقد فشلنا في الحد من "نزيف الأدمغة"، ولا توجد لدينا استراتيجية واضحة المعالم والأهداف لرعاية العلماء ودعمهم والاستفادة منهم في معركة النهضة. نحن في حالة تخلف علمي وهذه حقيقة عبر عنها كثير من العلماء وكان آخرهم الدكتور محمد البرادعي، والخطأ الذي وقعنا فيه أننا لم نفهم التنمية بمعناها الصحيح، بل أسرفنا في الاستهلاك والاستيراد وثقافة الربح السريع والاعتماد على الآخر. لذلك فنحن بحاجة ماسة لمراجعة أوضاعنا العلمية، وإلى رسم سياسة علمية واضحة المعالم والأهداف، وإلى تخطيط جيد لإعادة الهرم العلمي والتنموي المقلوب في مجتمعنا إلى وضعه الطبيعي. لابد من وضع خطط ورسم سياسات وتوفير إمكانيات لدعم البحث العلمي وتطوير آلياته، وتقوية العلاقة المتبادلة بين العلم والمجتمع، وأن تكون لدينا مجالس علمية وسياسة علمية وإعلام علمي وبرامج تربوية وتعليمية تساهم في تنمية روح البحث العلمي، وأن نرفع شعار الاهتمام بالكفاءات الوطنية والمنتج الوطني والفكر الوطني واللغة الوطنية، وأن نعتمد سياسة الاعتماد على الذات.