قبل نحو خمسة عقود من الزمن ضربت أرجل العرب، تحت قيادة مصر، مناطق عدة في العالم، حيث خاضوا معركة التحرير الكبرى ضد الاستعمار، حتى حمل عصاه ورحل. واليوم تغيرت موازين القوى، وتراجعت قدرات العرب، الذين كان يقال إنهم القوة السادسة في العالم عسكرياً قبل أربعة عقود فقط، لتصبح إمكاناتهم مجتمعة في التسليح أقل من إسرائيل، وفي الاقتصاد أضعف من إسبانيا، وفي عالم الترجمة والنشر أدنى من دولة أوروبية صغيرة فقيرة هي اليونان، أي أنهم فقدوا، إلى حين، القدرة على إدارة المعارك الكبيرة في عالم الحرب والمال، ولم يعد أمامهم إلا أن يلتفتوا إلى الصغير من المعارك، فيحسنوا إدارتها، ليجنوا فوائد سريعة ترمم الشروخ التي مزقت البنيان العربي على مدار العقدين الأخيرين، وجعلتنا نعود إلى المربع الأول، وكأن الاحتلال الأوروبي قد غادر أراضينا قبل يومين فقط. فبدلًا من انتظار العرب لحظة تاريخية فارقة يستعيدون فيها جزءاً من مجدهم الضائع وحضاراتهم العظيمة التي أهدت الدنيا عطايا مادية لا تنسى، ونفحات روحية لا تزال متوهجة، عليهم أن يعملوا بجد واجتهاد في سبيل تحسين أوضاعهم الراهنة بالقدر الذي يسمح لنظامهم الإقليمي بالبقاء على قيد الحياة، أو على أقل تقدير الحيلولة دون تدهور أوضاعهم إلى الحد الذي يخرجهم تماماً من "زمام التاريخ" أو يؤدي إلى "إعلان وفاتهم" حسب ما قال نزار قباني ذات يوم بقصيدة بكائية أبدعها في لحظة يأس جارف، تصور فيها أن الغد سيكون، بالضرورة، أسوأ من اليوم، وأن العروبة تسير، لا محالة، إلى ذهاب أبدي. إن معطيات التاريخ تهدي إلينا حكمة عميقة وناصعة عن أمم لم تقعدها الهزائم الكبرى أو النكسات الشاملة والوهن العام الذي تمكن منها حتى النخاع، عن محاولة كسب النزال المحدود والاشتباك المحدد مع وقائع حياتية جانبية، نراها صغيرة وهي من عظائم الأمور، حتى خرجت من ضيق إخفاقها إلى آفاق الإنجازات العريضة، التي دفعتها إلى مقدمة الصفوف، بعد أن كانت قبل عقود في عداد الأمم المغيبة عن التدفق الرئيسي لحركة العلاقات الدولية. ولعل ما مرت به الصين والهند، مثلًا لا حصراً، يدلل على هذا الأمر بجلاء لا يشوبه غموض، ووضوح لا يصيبه لبْس. فالصين ما ظن أحد أنها ستفيق من حرب الأفيون، وتسترد وعيها، وتطلق طاقتها في اتجاه المزاوجة بين ما في القيم التقليدية الكنفيشيوسية من جوانب أخلاقية إيجابية وما في ثورتها الحمراء من اتجاه صارم وقوي إلى تهيئة المجتمع لحياة عملية مختلفة، ثم تقرر، بعد الدخول في جدل عميق حول الملامح النهائية للأيديولوجيا وحدود التفاعل المرن مع العالم، أن تخط لنفسها بثقة طريقاً مستقيمة، جنت منها ثروة طائلة، وحققت لبكين وجوداً اقتصادياً، ومن ثم ثقافياً وسياسياً أحياناً، في كل مكان على سطح الأرض. فالصين لم تشأ أن تستمر في مناطحة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق في عالم التسلح الرهيب، بل امتلكت فقط في هذه الناحية ما يكفي للدفاع عن سيادتها الوطنية، ولم تجار القطبين الكبيرين إبان الحرب الباردة في بلوغ أجواز الفضاء الرحيب، بل قررت أن تبدأ من مجال هامشي ضئيل في عالم المال والقوة، لكنه بالغ التأثير في دنيا الحضور الثقافي والرمزي، ثم الاقتصادي فيما بعد، وهو صناعة "لعب الأطفال"، التي لم تلبث أن اتسعت لتطوق مجالات صناعية تلبي الاحتياجات اليومية البسيطة للفرد والأسرة في أرجاء العالم كافة، من ملبس وأدوات كتابية وزينة وهدايا... الخ، وأنجزت في هذه الناحية إلى الدرجة التي تثير حنق الولايات المتحدة. أما الهند، التي اختارت العصيان المدني طريقاً للمقاومة في أداء عبقري قاده رمزها العظيم المهاتما غاندي، فإن توصلها إلى السلاح النووي لردع غريمتها التاريخية باكستان لم يدفعها إلى التلويح بهذه "القوة الخشنة" طريقاً لحيازة مكانة دولية، بل التفتت إلى إدارة معركة صغيرة كان انتصارها فيها مظفراً، بكل المقاييس، إلى درجة أن الدولة التي كانت تحتلها وهي بريطانيا، باتت في حاجة ماسة إلى الاستفادة من مظاهر هذا النجاح الهندي. والمعركة التي اختارتها الهند بدأت بالسينما والموسيقى ووصلت الآن إلى عالم الاتصالات والبرمجيات. فإذا كانت الموسيقى الهندية قد اكتسبت شهرة عالمية بتفردها وسحرها وعذوبتها وخصوصيتها التي تنبت من ذائقة الهنود ووجدانهم، فإن سينما الهند خطت طريقها باقتدار، وفرضت أسواقها، ونافست السينما الأميركية في آسيا وأفريقيا، على وجه الخصوص، وباتت تشكل مصدراً مهماً من روافد الدخل القومي للبلاد، في وقت يزيد فيه الطلب يوماً إثر يوم على مهندسي ومبرمجي الكومبيوتر الهنود للعمل في أرفع المؤسسات الاقتصادية والعلمية الأوروبية. وعلى النقيض من ذلك يقع الخطاب السياسي والثقافي العربي، على اختلاف المناهل الفكرية والأيديولوجية التي ينبع منها، في فخ الينبغيات العريضة، فهو يطالب بمشروع نهضة كاملة وتمكن واسع ينتج مكانة وقوة دولية بارزة، دفعة واحدة، وفي سرعة فائقة. وهذا الطرح لا يعبر عن طموح بقدر ما يشي بتجاهل حركة الواقع وسنن التاريخ، وجهل بقراءة الإمكانات الراهنة للعرب، فتكون نتيجته إما الاستسلام للبقاء في الظل واستمراء الضعف والهوان بعد تكرار الفشل في تحقيق نجاح كاسح دفعة واحدة، أو الميل إلى التفسير التآمري لكل شيء، وكأن العالم لا شغل له سوى الكيد لنا. وقد يكون العرب معذورين جزئياً في استعجالهم وإحساسهم بأن هناك ما يدبر ضدهم في الخفاء، في ظل التحيز الأميركي الجلي لإسرائيل، ومع احتلال العراق، تحت ذرائع واهية، في الوقت الذي تتمسك فيه الولايات المتحدة بالخيار السلمي طريقة لحل المشكلة الكورية الشمالية. لكن العيب أن يتم تضخيم هذا العذر، ليصبح بمثابة مرض نفسي عضال، يكرس حالة الهروب من مواجهة التفاصيل اليومية العربية، أو تجاهل مسائل مهمة صغيرة، وصغرها ليس طبعاً ولا طبيعة أصيلة فيها وإنما نتاج قيامنا بتهميشها بإرادتنا، وانحيازنا في الوقت نفسه لحساب "الكليات" الكبيرة، التي هي بنت الأيديولوجيا أكثر من كونها الإفراز الطوعي للواقع الذي يتبدل باستمرار. لقد حان الوقت للعرب، الشعوب قبل الأنظمة والناس قبل الحكام، لأن يلتفتوا إلى المعارك الصغيرة فيخوضونها بثقة واقتدار، بدءاً من معركة تغيير الصورة النمطية المغلوطة عنهم، التي تطفح بها مناهج التعليم ووسائل الإعلام الغربية، وانتهاء بتقديم إسهام ولو بسيط في حركة الحياة المائجة، قد يكون في تلبية احتياجات الباحثين عن "الامتلاء الروحي" وما أكثرهم على سطح الأرض، وما أحوجهم لبساطة ومنطقية وسلاسة العقيدة الإسلامية بتبنيها التوحيد. وينبغي أن يسعى العرب إلى فرض احترام الموسيقى الشرقية الخالصة، التي تنفرد باكتمال لحني لا يتوفر لنظيرتها الغربية، أو غير ذلك من مجالات حياتية تبدو، على قوتها وأهميتها، بسيطة في نظر المتعجلين، الذين لا يرون الإنجاز إلا من خلال دق طبول الحرب، والتي إن كان لا يمكن أن ننكر أهميتها إن هاجمنا الأعداء واستباحوا أرضنا وعرضنا، فإنه لا ينبغي أن نقتصر عليها ونقف عندها وننسى المعارك الصغيرة، التي إن ربحناها لن نجد صعوبة أبداً في كسب المعارك الكبرى.