تحول العدوان الإسرائيلي على غزة إلى سؤال عن مصير أمة، ولم يعد مجرد مفاوضات حول الهدنة أو فتح المعابر وإنهاء الحصار، صار السؤال بحاجة إلى إجابة واضحة، أتريد الأمة أن تسلم سيادتها واستقلالها بالمطلق إلى إسرائيل التي تستعد لأن تكون قائدة الشرق الأوسط دون منافس أو معترض، أم ما تزال الأمة تمتلك إرادة الحفاظ على قرارها وسيادتها وحقوقها؟ كان المريع دخول الإعلام الصهيوني على شكل الإجابة عبر خديعة تسللت إلى الإعلام العربي في كثير من منابره، حين قسم الأمة إلى معسكرين، سماهما معسكر الاعتدال ومعسكر الممانعة. وأعجب كيف يتداول بعض الإعلام العربي هاتين التسميتين دون فحص الدلالة، حيث لابد من تحديد المواصفات لمعنى الاعتدال المقصود، ولمعنى الممانعة، كي لا يفهم المتداولون أن الاعتدال يعني التنازل عن الحقوق العربية وهذا غير معقول، وأن الممانعة تعني الإصرار على الحرب ورفض رؤية سلام عادل وشامل، ولقد حددت المبادرة العربية سقف الاعتدال الممكن، ووافقت عليها كل الدول العربية، فصار النزول تحت سقفها نزولاً تحت سقف الاعتدال، كما صار التمسك بها إذا فقدت فاعليتها وصلاحيتها تفريطاً بالحق وبالسلام معاً. وأما كلمة الممانعة فلابد من تعريف لها كذلك، أهي منع للتفريط بالحقوق أم منع للحصول عليها عن طريق المفاوضات؟ إنني أجد أن وضع كلمة الممانعة في مقابل الاعتدال يسيء إلى المفهوم ما دام يصر على التمسك بحقوق الأمة ويؤكد أنه لا يفرط بها. لقد ظهر ما يمكن أن يسمى اعتدالاً (تجاوزاً) كناية عن قبولنا بفكرة السلام بعد لاءات الخرطوم التي اعتبرت ألا حديث عن الصلح مع إسرائيل، وكنت شخصياً ممن استغربوا حديث عبدالناصر بعد نكسة حزيران عن شعار (إزالة آثار العدوان) وكنت أتساءل هل يقصد عبدالناصر أن نقبل بالعدوان ونكتفي بإزالة آثاره؟ وأذكر أنني كنت أحد الرافضين لـ"مبادرة روجرز"، وأحد المتمسكين بلاءات الخرطوم، لكنني تغيرت قليلاً، وأوشكت أن أصير معتدلاً حين قلت ربما يكون ممكناً أن نحصل على حقوقنا العربية عبر مفاوضات للسلام ما دامت الحروب المتتالية لم تحقق عودة للحقوق، ولم أكن واثقاً لمعرفتي طبيعة الفكر الإسرائيلي وآفاقه الدينية المغرقة في الأصولية اليهودية. ولكن الاعتدال الجوهري الذي خاضه جيلنا هو الاستعداد النفسي للتفاوض مع إسرائيل وهو يعني الاستعداد التدريجي للاعتراف بوجودها إذا وصلنا إلى حقوقنا العربية التي أقرتها الشرعية الدولية، وكنا تربينا على رفض هذا الوجود لأن إسرائيل لا تملك أي حق في أرضنا العربية لا في الحاضر ولا في التاريخ، ولكننا قلنا صحيح أنها لا تملك أي حق، ولكنها أصبحت أمراً واقعاً، وبات فيها نحو ستة ملايين إنسان، وبتنا نعترف بأن فكرة رمي إسرائيل في البحر تشبه فكرة إسرائيل في إمكانية إبادة شعب فلسطين أو ابتلاع البحر لغزة. وبدأنا نعتدل وكانت ذروة الاعتدال أن نقبل بحدود الرابع من حزيران 67 قابلين بما كان قبله، ومتجرعين ما قد يقتضيه السلام من تداعيات مؤلمة، ودخلنا المفاوضات على مبدأ واضح هو "الأرض مقابل السلام"، واشترطنا في سوريا أن يكون السلام عادلاً لا ينتقص فيه حق من حقوق العرب، وأن يكون شاملاً لحرصنا على ألا ننجو بأنفسنا ونترك أشقاء لنا وحدهم يصارعون من أجل حقوقهم، ويكون بوسع إسرائيل أن تنفرد بهم بدل أن نكون كتلة واحدة متضامنين في السراء وفي الضراء وفي الحرب والسلم لكوننا نؤمن بأننا أمة واحدة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً. وأحسب أن مبادئ مؤتمر مدريد هي حد الاعتدال وسقفه الأعلى، وعليها تأسست المبادرة العربية التي قبلنا بها مع إصرارنا على حق العودة دون أي تلاعب دولي فيه، ولابد من مراجعة نص مهم يجعل المبادرة حية وقد ورد فيها وهو "أن تعلن إسرائيل أنها تجنح للسلم وأن السلام العادل هو خيارها الاستراتيجي كذلك، وأن تؤكد التزامها به"، وبالموافقة العربية الشاملة على هذه المبادرة صارت الأمة كلها معتدلة ما دام مفهوم الاعتدال هو هذا الحد وهذا السقف. فإن قيل إن المبادرة تعلن خيار السلام وحده، فإن الجواب السريع أن المبادرة ما تزال إلى اليوم عرضاً مفتوح المدى لم تقبل به إسرائيل كي نبدأ العمل بها، بل إن إسرائيل قالت كلمتها في المبادرة على لسان بيريز حين وصفها بأنها لا تساوي الحبر الذي كتبت به، وقبله رد شارون على المبادرة عسكرياً لحظة إعلانها، ومع ذلك انتظر العرب وعود الرئيس بوش ست سنين، وكان وعده الذي زعم أنه وعد إلهي هو إقامة دولة فلسطينية، ولقد بات واضحاً أن الإسرائيليين لا يقبلون بدولة فلسطينية متاخمة لدولتهم اليهودية، ولا يقبلون بأن يكون للفلسطينيين أي حق في القدس، ويرفضون رفضاً قاطعاً حق العودة، ويبنون المزيد من المستوطنات بدل أن يتخلوا عنها. وحين سحق شارون جنين عبر عن رؤية الإسرائيليين لطريقة الحل التي ينشدونها، وحين قتلوا عرفات عبروا عن تقديرهم لشريك رابين الذي قتل قبله، ولقد تصاعد العدوان على شعب فلسطين والمبادرة ما تزال قائمة، ومعبرة عن الاعتدال العربي، ولئن كان بعض القادة العرب قد طالبوا صراحة بسحب المبادرة في قمة غزة الدولية في الدوحة، فإن الذين رأوا إبقاءها في قمة الكويت لم يكونوا يعولون عليها، وقد قال خادم الحرمين الشريفين إن هذه المبادرة لن تبقى إلى الأبد على الطاولة، إذن أين يمكن أن نتلمس الفوارق المنهجية بين الاعتدال وبين الممانعة؟ أهي في الموقف من حق الشعب في صد العدوان حين يتعرض له، ما أظن أحداً يمكنه أن يمنع شعباً من أن يدافع عن نفسه، ولا يعقل أن يكون لدى العرب فريق يرى إسرائيل محقة في عدوانها على غزة، واسمعوا المزيد من التصريحات الإسرائيلية عن نوايا إسرائيل ومعتقدات الأكثرية من شعبها، وقد أكدت الانتخابات خيار إسرائيل للاستمرار في العدوان وشن الحروب على العرب، والمستقبل القادم مظلم، فأين سيكون موقف الاعتدال وأين سيكون موقف الممانعة وكلنا في الهم شرق؟ وأما التقسيم الإعلامي الصهيوني للأمة إلى اعتدال وممانعة فهو يهدف إلى تحويل الصراع إلى داخل البيت العربي فضلاً عن محاولته إقناع العرب بأن عدوهم ليس في إسرائيل، وهدفه توريطهم في عداوات جانبية كي يصرف جهدهم مرة أخرى بعد الثمانينيات بعيداً عنها. إنني أرجو أن يتحاور المثقفون العرب حول خيارات الأمة لأنهم مسؤولون تاريخياً أمام شعبهم، ولأنهم يعبرون عن رأيه، ولابد من أن يحافظ المتحاورون على أدب الحوار، كي لا يُفسد الانفعال والحكم المسبق والولاء الضيق للود قضية، أملاً في أن تبقى القضية عربية وليست فلسطينية فقط.