تأتي العلاقة بين معدلات النمو الاقتصادي والاحتياجات للموارد البشرية، ضمن الخصوصيات التنموية التي تميز الاقتصادات الخليجية، حيث خصص المؤتمر السنوي الرابع عشر لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية محاوره لمناقشة هذا الموضوع من خلال أوراق العمل التي تناولت هذه العلاقة بصورة مفصلة. وجاءت الجلسة الختامية لتختزل الكثير من الآراء التي طرحت على مدى ثلاثة أيام من المداولات الجادة، حيث طرحت في هذه الجلسة وجهتا نظر، تمحورت الأولى حول الدعوة إلى كبح جماح النمو السريع وتحديد معدلاته بـ3% سنوياً، معتبرة أن دول المجلس لا تعاني من مشكلة في الموارد البشرية، وإنما المشكلة تكمن في معدلات النمو السريعة التي يجب وضع حد لها. أما وجهة النظر الأخرى، فتتمحور حول ضرورة الإسراع في معدلات النمو لتطوير مصادر دخل بديلة، على اعتبار أن عمر النفط قصير ولابد من إيجاد بدائل بالسرعة الممكنة، على أن يتم معالجة المشاكل والسلبيات الناجمة عن نسب النمو المرتفعة. ومن الناحية الاقتصادية لا يمكن لأي بلد أن يحد من معدلات نموه في الوقت الذي يملك الموارد اللازمة لتحقيق نسب نمو مرتفعة، وإلا فإنه يفوت على نفسه فرصة تاريخية لا يمكن تعويضها، بل على العكس، فإن معظم البلدان التي لا تحقق معدلات نمو عالية تعاني من نقص في الاستثمارات، ومن عدم قدرتها على إيجاد الموارد اللازمة للإسراع في تحقيق ذلك. والحال أن دول مجلس التعاون حققت تقدماً ملحوظاً في العقود الثلاثة الماضية، بحيث انخفضت مساهمة النفط إلى نسبة تتراوح بين 30-35% من الناتج المحلي الإجمالي، في مقابل 65-70% في أواسط السبعينيات. وفي تلك الفترة طالب بعض الكتاب دول المجلس بضرورة إيجاد بدائل للنفط من خلال الإسراع في تنمية القطاعات الإنتاجية. والآن وبعد أن أخذ هذا النهج مكانة بارزة في السياسات الاقتصادية لهذه البلدان، برزت بعض الآراء التي تدعو إلى الحد من معدلات النمو المرتفعة. لكن المشكلة هي أن الكثير من الناس يعتقد أن عمر النفط الافتراضي هو مئة عام، إلا أن الحقيقة التي أشرنا إليها في السابق والتي أكدت عليها فيما بعد دراسة قيمة لشركة "بريتيش بتروليوم" المعروفة، هي أن عمر النفط الافتراضي يتراوح ما بين 40-45 عاماً فقط، وذلك باحتساب نسبة الاحتياطي العالمي إلى الاستهلاك العالمي. وإذن فكيف يمكننا إيجاد بدائل للنفط في هذه الفترة الزمنية القصيرة بمعدلات نمو 3%؟ لا نعتقد أنه من الحكمة تطبيق ذلك حتى لا نجد أنفسنا بعد أربعين عاماً عند مستويات التنمية الحالية، ولكن مع فرق شاسع وهو غياب الثروة النفطية. ولذا فالصحيح هو ما يتم الآن في دول مجلس التعاون من تحقيق نسب نمو مرتفعة، مثلما هو الحال في الصين والهند اللتين حققتا النجاح تلو الآخر، كما أن البلدان التي قدمت تجارب اقتصادية ناجحة في العقود الماضية، ككوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة، تمكنت من ذلك بفضل نسب النمو العالية والتطور الكبير في مجال تنمية الموارد البشرية. صحيح أيضاً أن لهذا النمو المرتفع سلبيات عديدة تتعلق بالأيدي العاملة الأجنبية والنقص في الموارد البشرية الخليجية، إلا أنه بدلاً من تقييد معدلات النمو، علينا معالجة هذه السلبيات، وهذا أمر ممكن، ففي الوقت الذي يشكل المواطنون الخليجيون 60% من السكان وفق الإحصائيات الرسمية الصادرة عن الأمانة العامة لدول المجلس، فإن نسبتهم لا تتعدى 40% من قوة العمل، أي أن هناك قوى عاملة محلية معطلة. وفي الوقت الذي تشكل المرأة الخليجية نصف المجتمع، فان مساهمتها في قوة العمل الخليجية لا تتعدى 20% ومن جديد هناك قوة عمل محلية كبيرة معطلة، مما يعني أن الخلل ليس في معدلات التنمية، وإنما هو في تركيبة القوى العاملة والموارد البشرية في دول المجلس، وفي اتساع الفجوة من خلال استمرار الاعتماد على الأيدي العاملة الأجنبية في تنويع مصادر الدخل. والحل الأول الخاص بتقييد معدلات النمو على رغم عدم موضوعيته، هو الحل الأسهل، إلا أنه سيفقد دول المجلس فرصاً استثمارية مهمة، كما أن رؤوس الأموال المخصصة لتنفيذ المشاريع الإنتاجية الخاصة بتنويع مصادر الدخل القومي ستجد طريقها للخارج. أما الحل الأصعب والخاص بحل السلبيات المرافقة لمعدلات النمو السريعة، وبالأخص تطوير الموارد البشرية الخليجية وفتح أسواق العمل أمام مواطني دول المجلس من خلال تحقيق المواطنة الخليجية، فإنه هو الحل الذي سيضمن مصادر دخل بديلة على مدى الأربعين عاماً المتبقية، مما سيضمن بدوره فرص عمل ومستوى معيشة جيدا للأجيال القادمة. والحال أن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية طرح من خلال مؤتمره الناجح الكثير من القضايا التنموية والمجتمعية المهمة المتعلقة بمستقبل الاقتصادات الخليجية ومواردها البشرية وتركيبتها السكانية، مما يفتح مجالات كبيرة لدراسة هذه القضايا ووضع الحلول المناسبة لها.