كثيراً ما يمنعنا الخجل والحياء من التعرض في أحاديثنا العامة لبعض الأمراض والعلل الطبية، أو الكتابة عنها ومناقشتها في وسائل الإعلام المختلفة، أو حتى مراجعة الطبيب لطلب المساعدة عند الإصابة بها. وأحد هذه الأمراض، هو التبول اللاإرادي، أو التبول الليلي، أو إبلال السرير (Bedwetting)، والذي على عكس ما يعتقد الكثيرون لا تقتصر الإصابة به على الأطفال فقط. فحسب دراسة شهيرة صدرت من هولندا، يصيب التبول اللاإرادي 0.5% من البالغين بين 18-64 عاماً. بينما أظهرت دراسة أخرى أجريت في هونج كونج معدلات إصابة أكبر بكثير، قدرتها الدراسة بـ 2.3% من البالغين من16 إلى 40 عاماً. وبالنظر إلى عدد سكان العالم، يمكن ترجمة هذه النسب إلى مئات الآلاف من الأشخاص الذين يعانون من التبول اللاإرادي حول العالم، والذين غالباً ما تكون معاناتهم في صمت بسبب الخجل والحياء من الاعتراف بإصابتهم بهذه الحالة المرضية. أما بين الأطفال، فيعتبر التبول الليلي أحد أكثر الاضطرابات الصحية انتشاراً على الإطلاق، في السنوات الأولى من العمر. ويعرف التبول اللاإرادي، كما يدل اسمه، بأنه تبول المريض لاإراديا أثناء نومه، بعد تخطيه العمر الذي يتوقع فيه أن السيطرة العصبية على المثانة البولية قد اكتملت ونضجت. وهذا العمر يختلف من شخص إلى آخر، ومن جنس إلى آخر. فلدى الفتيات، يتوقع بلوغ هذا التحكم عند بلوغهن سن السادسة، أما عند الذكور فيبلغون هذه المرحلة في سن السابعة. وهذه الأرقام ليست قطعية أو حدية، وهو ما يتضح من حقيقة أنه في سن العاشرة، يظل 95% فقط من الذكور والإناث قادرين على التحكم في مثاناتهم. ويقسم التبول اللاإرادي إلى نوعين؛ أولي وهو الذي يستمر منذ الطفولة دون وجود فترة من التحكم، وثانوي وهو الذي يحدث بعد أن يكون الطفل أو البالغ قد تمكن لفترة طويلة من التحكم في المثانة أثناء نومه. ويمكن التعرض هنا لموضوع التبول اللاإرادي من زوايا مختلفة، مثل الأسباب، أو طرق العلاج، ولكنني أفضل استغلال المساحة المتاحة هنا لبيان الجوانب النفسية والاجتماعية لهذه الحالة المرضية واسعة الانتشار. وأول تلك الجوانب هو ما تظهره الدراسات الطبية المختلفة، من أن لجوء الأبوين لعقاب الطفل وتعنيفه، لا يؤدي إلا إلى تدهور الحالة بشكل أكبر. حيث يصف الأخصائيون النفسيون تولد دائرة خبيثة، تبدأ ببلل الطفل لسريره، مما يدفع الوالدين لعقابه وتعنيفه، وهذا ما يولد إحساساً لدى الطفل بالعار والخجل وفقدان الثقة بالنفس، وهي ضغوط نفسية هائلة على نفسية الطفل الصغير، تؤدي إلى استمراره في إبلال سريره، وإلى المزيد من العقاب والتعنيف. والغريب أن هذه الدائرة لا يقتصر وجودها على العائلات المنخفضة المستوى اقتصادياً، أو تعليمياً، أو اجتماعياً. ففي الولايات المتحدة مثلًا، تعاقب 25% من الأسر أطفالها على إبلال السرير، بينما ترتفع هذه النسبة في هونج كونج إلى 57%. وإن كان مستوى تعليم الأبوين يلعب دوراً مهماً في طريقة تعامل الأسرة مع طفلها، حيث وجد أن أطفال الآباء الأقل تعليماً، يعاقبون بمعدل ضعف أطفال الآباء الأعلى تعليماً على إبلالهم لأسرَّتهم أثناء نومهم. ومثل هذا العبء النفسي، يتضح من حقيقة ارتفاع الثقة بالنفس واحترامها لدى الأشخاص المصابين بالتبول اللاإرادي عند تمكنهم من التوقف عن إبلال أسرتهم، ومن حقيقة أن المسوح النفسية التي أجريت على الأطفال، أظهرت أن التبول اللاإرادي يحتل المرتبة الثالثة في مقدار ما يسببه من توتر وقلق في حياة الطفل، بعد طلاق الوالدين الذي يحتل المرتبة الأولى، وشجارهما المستمر أمام الأطفال الذي يحتل المرتبة الثانية. وينتج التوتر بين هؤلاء الأطفال أيضاً جراء تعرضهم للمضايقة والسخرية المستمرة من إخوانهم وأخواتهم، أو خوفهم من عقاب والديهم، أو خشيتهم أن يعرف أصدقاؤهم وأقرانهم عن بللهم لأسرّتهم. وحتى بين البالغين، يشكل التبول اللاإرادي نقطة إحراج شديد، تجعلهم يصنفون حالتهم ضمن ثاني أكبر سبب لتوترهم النفسي، وتمنعهم من طلب المساعدة الطبية، خشية الإحراج والسخرية. ولا يقتصر هذا العبء على الأطفال والمصابين فقط، بل يمتد أيضاً إلى بقية أفراد العائلة. فعلى الصعيد المادي، قدرت دراسة أوروبية أن العائلات التي يوجد فيها طفل يبلل سريره ليلاً، تنفق في المعدل حوالي ألف دولار كل عام، على نفقات الغسيل الإضافي، والمزيد من أغطية السرير، واستبدال المراتب المتعفنة، ومصاريف استهلاك الحفاظات. وبخلاف العبء المادي، تتعرض هذه العائلات لقدر أكبر من التوتر والإرهاق، حيث كثيراً ما يضطر الأبوان للاستيقاظ في منتصف الليل لإسكات طفلهما الذي يبدأ في البكاء بعد أن يبلل سريره، ولتغيير ملابسه وأغطية سريرة. وتختلف أساليب علاج هذا المرض وتتعدد بشكل كبير، بداية من العلاج السلوكي، إلى أجهزة الإنذار (Bedwetting Alalrm)، إلى الأدوية والعقاقير، إلى العلاج الهرموني، حيث يتم اختيار طريقة العلاج المناسبة حسب السبب، أو الأسباب التي تؤدي إلى التبول الليلي بين الأطفال أو البالغين. وتتنوع هذه الأسباب هي الأخرى، وإن كان أهمها وأكثرها انتشاراً، هو تأخر النمو العصبي للطفل، الذي يؤثر فقط على قدرته على التحكم في المثانة أثناء النوم، دون أن يؤثر على أي من قدراته العصبية الأخرى. ولكن بغض النظر عن السبب أو أسلوب العلاج، ينبغي أن ندرك جميعاً، أن التبول الليلي، هو حالة مرضية، لا ذنب للطفل فيها يجعله يستحق العقاب والتوبيخ، مثلها في ذلك مثل التهاب الأذن الوسطى، أو السعال الديكي، أو غيرهما من أمراض الأطفال التي لا تدفعنا لعقابهم، بل تجعلنا نمنحهم أكبر قدر ممكن من الرعاية والاهتمام والحنان. د. أكمل عبدالحكيم