على رغم كل جهود الثنائية الحزبية التي يبذلها أوباما، فإن ليبراليته تظل هي الطاغية. ولكن أي نوع من الليبراليين هو؟ وكيف تؤثر ليبراليته هذه على أميركا؟ يلاحظ أن أوباما رفض نعته بكونه ليبرالياً منذ فترة الانتخابات الرئاسية التمهيدية. وقد فعلت الشيء نفسه منافسته -حينها- هيلاري كلينتون، مفضلة أن تكون تقدمية وليست ليبرالية. وكان أوباما قد وصف كل الحجج السائدة المثارة "يساراً" و"يميناً" ضمن تلك التقسيمات، بأنها تعبر عن حالة من اليأس وعدم المواكبة. وبدلاً منها فضل أوباما تقديم نهج براجماتي عملي متفائل تقدمي وغير أيديولوجي. وما أن حل اليوم الفاصل في الانتخابات، حتى أثمرت دعوته إلى التغيير لصالحه ولصالح حزبه "الديمقراطي" على حد سواء. ومنذ ذلك الوقت، بذل أوباما كل ما يستطيع في سبيل الحفاظ على العهد الذي قطعه على نفسه -وأكده مرة ثانية في خطاب تنصيبه الرئاسي- ألا وهو "وضع حد للتظلمات والوعود الكاذبة وتبادل الاتهامات والدوغمائية المسمومة، التي أمسكت بخناق السياسات الأميركية لمدة أطول مما يجب". وفي الخطاب نفسه أكد أوباما على ضرورة الوحدة القومية، واستلهم جهود وحكمة الآباء المؤسسين. وضمن هذه المساعي التقى أوباما بـ"الجمهوريين" من أعضاء الكونجرس، وتناول وجبة العشاء مع عدد من المعلقين الصحفيين المحافظين بمنزل جورج ويل. ولكن لأي مدى يمكن لأوباما البعد عن الأيديولوجيا، وهو السياسي الذي وصفته مجلة "ذي ناشونال جورنال" بأنه عضو الكونجرس الأعلى أصواتاً ليبرالية في عام 2007؟ وتكاد تكون أول أوامر تنفيذية رئاسية اتخذها أوباما هي نقض كافة السياسات "الجمهورية" التي اتبعها سابقه جورج بوش. وليس أدل على ليبراليته من سياساته الجديدة المعلنة في مجالي الرعاية الصحية والسياسات الخارجية لإدارته. كما يقف دليلاً على ليبراليته، عدم حصول خطة الحفز الاقتصادي التي اقترحها، ولا على صوت واحد من أصوات أعضاء مجلس النواب "الجمهوريين"، مع عدم توقع حصولها على الكثير من أصوات "الجمهوريين" في مجلس الشيوخ أيضاً. فمعضلة هذه الخطة فيما يبدو، أنها تحفز المجموعات الديمقراطية الناخبة، والموظفين الحكوميين، والنقابات والاتحادات المهنية، أكثر مما تحفز الاقتصاد القومي. كما لا تبدو دعوة أوباما إلى سياسات جديدة لعصر جديد، دعوة استثنائية غير مسبوقة، بل هي قديمة ولها تراث عريض في بلادنا، وإن اكتسبت ثوباً جديداً. غير أن هذا لا يعني خلو ليبرالية أوباما هذه مما يثير الاهتمام. فما يبذله أوباما ليس أقل من استكمال واتقان "المشروع الليبرالي الكبير"، الذي بدأ في بلادنا منذ قرن مضى. فقد جاءت الليبرالية الجديدة إلى بلادنا في ثلاث موجات رئيسية، ومن المفيد أن ننظر إلى أوباما في ضوء هذه الموجات الثلاث. فقد كان تقدميو بدايات القرن العشرين هم الليبراليون الأصليون الذين وضعوا اللبنات الأولى للمذهب السياسي الليبرالي. حينها كان قد رأى وودرو ويلسون وغيره، أن دستور أميركا دستور يعود إلى القرن الثامن عشر، وأنه بني على مفاهيم ذلك القرن لحقوق المواطنة. وبينما كان ذلك الدستور ملائماً لزمانه ومجتمعه، فإنه لم يعد ملائماً البتة لأميركا القرن العشرين، ما لم يعاد تفسير نصوصه بروح عصرية جديدة. وعندها كانت تلك الروح الجديدة داروينية تطورية في الأساس. وفي سبيل مواجهة التحديات الاجتماعية الاقتصادية الجديدة، ومن أجل تمكين الرؤساء من قيادة هذا التطور وتنظيم مسار التقدم الاجتماعي نحو المستقبل، فإن عليهم أن يكفوا عن كونهم مجرد حراس لبوابة الدستور ونصوصه، ويتحولوا إلى قادة ديناميين للرأي العام. وهذا عين ما يؤيده أوباما من خلال ما جاء في تعليقاته على الدستور الأميركي في كتابه "جرأة الأمل" بقوله: "فالدستور ليس وثيقة جامدة، إنما تجب قراءتها في سياق عالم متغير باستمرار". وكذلك جاء في خطاب تنصيبه الرئاسي: فالسؤال الذي نطرحه ليس ما إذا كانت الحكومة كبيرة أو صغيرة، ولكن ما إذا كانت فاعلة؟ وفي التركيز على "الفعل" ما يشير إلى نهجه البراجماتي الذي يحاول أن يتميز به عن كونه ليبرالياً أيديولوجياً. أما الموجة الليبرالية الثانية فاتخذت طابعاً اقتصادياً، تمثل في وعود "الصفقة الجديدة" التي جاء بها الرئيس الأسبق فرانكلين دي. روزفلت. وهي الصفقة التي تعد الناخبين بمجموعة من الحقوق والامتيازات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، التي يتم تحقيقها عبر برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية والتعليمية. وإلى جانب هذه الامتيازات يتعين على الحكومة الفيدرالية توسيع سلطاتها ورقابتها إلى مجالات اقتصادية ظلت محرمة عليها بحكم الخصخصة أو ظلت شأناً خاصاً بالسلطات المحلية في الولايات والمقاطعات وغيرها حتى إلى وقت قريب. وعلى إثر انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك نظم الاقتصاد الاشتراكي على نطاق العالم بأسره، أعاد القادة الليبراليون من أمثال الرئيس الأسبق بيل كلينتون وغيره النظر في نظام السوق الحرة. وقد عززت الأزمة الاقتصادية الحالية هذا الاتجاه، خاصة وأن الاقتصاد القومي أصبح بحاجة ماسة إلى إعادة هيكلة وإنقاذ شاملين من قبل الحكومة، وليس إلى مجرد رقابة حكومية على أدائه. وهذا ما نراه الآن في خطة أوباما لإنقاذ الاقتصاد وحفزه. بهذا نصل إلى الموجة الليبرالية الثالثة والأخيرة، وهي موجة ذات طابع ثقافي، اتخذت شكل الدفاع عن تحرر النساء وتوسيع حقوقهن، حرية البحث العلمي، انتشار موسيقى الروك آند رول وغيرها. غير أن أبرز عناصرها هو توسيع مفهوم الحقوق المدنية. وعلى ليبرالية هذه الموجة، يشهد فوز أوباما نفسه بالمنصب الرئاسي، وتغلبه على مشكلة العرق والانتماء الاجتماعي. تشارلس آر. كيسلر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زميل رئيسي بمعهد كليرمونت وأستاذ شؤون الحكم بكلية "ماكينا كليرمونت". ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"