ضربة قاصمة وُجهت ضد خيار السلام. هذا ما يتفق عليه اليوم غير قليل من أنصاره في عالمنا العربي. ضربت إسرائيل خيار السلام ضمن ما طاله عدوانها على قطاع غزة. ولذلك أصبح السؤال عن مصير هذا الخيار مطروحاً بشكل أقوى من أي وقت مضى. وصارت الشكوك في إمكان الحفاظ عليه أعمق من ذي قبل. فعندما يصل أحد أبرز من حملوا خيار السلام على عاتقهم إلى إعلان أن إسرائيل لا تريده، لابد أن يكون لموقفه هذا مغزى بالغ الدلالة. لقد فتح الرئيس الفلسطيني قلبه خلال حديث إلى مراسلي وسائل إعلام عربية عدة في رام الله مؤخراً، وقال إن الحرب على غزة وتجربة المفاوضات الطويلة أظهرت أن إسرائيل لا تريد السلام. وقائل هذا الكلام ليس ممن يبحثون عن ذريعة لإسقاط خيار السلام، بل إنه لم يسقط هذا الخيار رغم كل ما حدث وإنما فقط اشترط وقف الاستيطان. وهذا شرط يبدو تحقيقه بعيد المنال وفقاً للتجارب القريبة والبعيدة. وها هو تقرير أخير لحركة "السلام الآن" يوضح أن معدلات البناء فى المستوطنات خلال عام 2008 زادت بنسبة 60% قياساً لعام 2007. ويعني ذلك أن الطريق إلى السلام صار مسدوداً، وأن إسرائيل تتجه إلى إسقاط الخيار السلمي، الذي تبناه العرب واعتبروه خيارهم الاستراتيجي لفترة طويلة، وأكدوا التزامهم به منذ قمة القاهرة عام 1996. لذلك حملت الفقرة الأولى في ديباجة مبادرة السلام العربية الصادرة عام 2002 هذا المعنى. لكن إسرائيل أسقطت هذا الخيار في عدوانها على قطاع غزة ليس فقط بسبب وحشية هذا العدوان الذي حولها إلى دولة هوجاء تجهر برفضها أي مرجعية قانونية أو أخلاقية، وإنما لأن هذا العدوان سبقته تراكمات طويلة جعلته نقطة تحول نوعي. ومن هذه التراكمات خبرة المفاوضات التي تحدث عنها محمود عباس، والاعتداءات المتوالية على الشعبين الفلسطيني واللبناني. وعندما يكون العدوان على غزة نقطة تحول نوعي، فهذا يعني أنه ليس مجرد حلقة جديدة في سلسلة هذه الاعتداءات، وإنما بداية مرحلة مختلفة وربما عصر آخر غير ذلك الذي اعتمد فيه العرب خيار السلام، بدءاً بمصر في أواخر سبعينيات القرن الماضي. ولذلك يبدو هذا العدوان كزلزال مدمر. فقد زلزل الأرض التي وقف عليها خيار السلام، على نحو يجيز القول إن عملية "الرصاص المصبوب" هي حرب على هذا الخيار، بخلاف ما أعلنته إسرائيل وهو أنها جزء من الحرب على الإرهاب! وهذا هو مؤدى ما طرحته الكاتبة الإسرائيلية "أوريت دغاني"، في مقالة نشرتها صحيفة "معاريف" بعددها ليوم 29 ديسمبر الماضي، أي في بداية الحرب على غزة. فقد كتبت أن هذه الحرب تدل على "أن إسرائيل باتت مستلبة لثقافة الحروب، ولا تعرف أي لغة غيرها"، أي لا تعرف لغة خيار السلام الذي يسقط الآن. وزادت على ذلك قائلة إن إسرائيل تندفع إلى الحرب بسهولة لأنها تكره السلام، وتعتبر أن القوة هي الخيار الوحيد لتحقيق الأهداف. وفسرت، بذلك، كثرة الحروب أو الاعتداءات التي شنتها إسرائيل، فقالت: "نحن نتصور أنه من الطبيعي أن نندفع إلى الحرب التي يقتل فيها الناس ويصلبون، ولذلك نشعل حرباً كل عامين ونصف العام تقريباً". غير أن الحرب الأخيرة على قطاع غزة ليست مثل الحروب السابقة، على تفاوت مستويات العنف فيها، رغم أنها ليست الأكبر سواء من حيث عدد ضحاياها أو مداها الزمني. كانت حرب 1982 هي الأطول زمناً، إذ استغرقت 88 يوماً. كما كان عدد ضحاياها، وما ارتبط بها من مذابح، أكبر مقارنة بالحرب الأخيرة على غزة. لكن هذه الحرب تمثل النقطة التي تتحول عندها التراكمات الكمية إلى تحول نوعي. كما أنها الأكثر وحشية من حيث كثافة النيران وإحكام الحصار وضآلة المساحة المستهدفة التي بدت كما لو أنها تجسيد للجحيم نفسه على مدى 22 يوماً كاملة. لذلك فقد أنتجت طاقة غضب غير مسبوقة في داخل البلاد التي أقامت علاقات سلام رسمية مع إسرائيل، وتلك التي كان مفترضاً أن تفعل مثلها في حالة الانسحاب من باقي الأراضي العربية المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية، وفقاً لمبادرة السلام العربية. ومن الطبيعي أن يكون أشد هذا الغضب وأكثره تأثيراً في قطاع غزة، حيث لا يخلو شارع واحد من شوارعه من شهيد أو أكثر، بخلاف الحالات التي استشهد فيها أفراد عائلة كاملة أو عدة عائلات في الشارع الواحد وأحياناً في المنزل نفسه. ومن الطبيعي أن تنتج طاقة الغضب الهائلة المترتبة على ذلك، وما يقترن بها من اختلالات نفسية حادة لدى قطاع واسع من أطفال غزة، موجات "عنف" متوالية ضد إسرائيل. فأين ذلك، مثلا، من المشاعر التي سادت القطاع نفسه في منتصف العقد الماضي عقب توقيع اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الوطنية، حين أقام كثير من فلسطينيي شمال القطاع علاقات ودية وصلات طيبة مع سكان مستوطنات جنوب إسرائيل في لحظة تعاظم فيها الأمل في سلام يغير وجه الحياة على الأرض. وفضلا عن ذلك، فمازال الزلزال الذي أحدثته هذه الحرب ينتج تداعياته الخطيرة التي تعمل في اتجاه إسقاط خيار السلام إلى مدى غير معلوم الآن. ومن أهم هذه التداعيات ثلاثة: أولها إصرار إسرائيل على أن تضرب عرض الحائط بكل القواعد والقوانين والمعايير الدولية، بما في ذلك انتهاك معاهدة السلام مع مصر بشكل غير مباشر في غاراتها شديدة العنف لتدمير الأنفاق في منطقة رفح الفلسطينية الملاصقة لمدينة رفح المصرية. فعندما يقول كبار المسؤولين الإسرائيليين إنهم لن يسمحوا لأحد بأن يعوق حركتهم المنفردة لضمان أمنهم، فهذا يعني أنهم لا يحترمون أي التزامات تعاقدية. وما السلام إلا تعاقد يلتزم به طرفان أو أكثر. ويدخل في هذا الإطار اتجاه إسرائيل إلى تجاوز مصر بشأن إجراءات مكافحة تهريب السلاح إلى قطاع غزة، ومحاولة فرض أمر واقع عليها عبر توقيع مذكرة تفاهم أمنية مع إدارة بوش التزمت بها إدارة أوباما. ولذلك يصعب تصور أن تمر هذه التصرفات الإسرائيلية دون أن تترك أثراً في العلاقة مع مصر. ومن التداعيات الخطيرة أيضاً لزلزال الحرب على غزة تكريس الانقسام الفلسطيني وإعطاء حركة "حماس" ذريعة جديدة لاستمرار السيطرة على القطاع أو فصله عن الضفة. ومن شأن تكريس الانقسام الفلسطيني أن يجعل خيار السلام أبعد منالا بشكل طبيعي، وأن ييسر في الوقت نفسه مسعى إسرائيل إلى إسقاط هذا الخيار لأنه يوفر لها ذريعة لذلك. ولا يقل أهمية في هذه التداعيات المترتبة على زلزال حرب غزة ازدياد التطرف داخل المجتمع الإسرائيلي على النحو الذي يحذر منه القلائل الباقون من أنصار السلام. فيبدو أن الخط البياني للتطرف في أوساط الرأي العام الإسرائيلي صاعد بشكل مستمر، رغم قليل من التذبذب بين لحظة وأخرى، منذ أن اختار رابين خيار السلام عقب انتخابه رئيساً للوزراء عام 1992. كان أريل شارون على رأس التيار الرئيس في قوى اليمين في ذلك الوقت، قبل أن يصعد نجم بنيامين نتانياهو معبراً عن الاتجاه إلى نقطة أكثر تطرفاً. ووصل الأمر في بداية العقد الحالي إلى حد أن شارون صار "معتدلا" مقارنة مع نتانياهو الذي هيمن على حزب "الليكود". فلم يعد أمام شارون إلا أن يغادره ليؤسس حزب "كاديما". ورغم أن نتانياهو يبدو اليوم ممتلكاً زمام قوى اليمين، فقد لا يمضي سوى وقت قصير حتى نجده وقد صار "معتدلا" حين يدعم التيار الأكثر تطرفاً في "الليكود" مواقعه. فمادامت الحرب هي سبيل إسرائيل الوحيد لضمان "أمنها" و"أمن" مستوطنيها، فمن الطبيعي أن يقف عدد متزايد من هؤلاء المستوطنين مع السياسي الأكثر إيماناً بأنه لا خيار آخر غير القوة المسلحة. ألا يكفي ذلك، إذن، لإسقاط خيار السلام؟ وأليس علينا في العالم العربي، والحال هذه، أن نحدد كيف سنتعامل مع مرحلة ما بعد هذا الخيار؟