بعد انتهاء المحرقة الإسرائيلية في غزة، برز السؤال نفسه: أين أصبحت القضية من فكرة الحل، ومن فكرة السلام؟ التداعيات التي تلت الحرب توحي حتى الآن بأن أمل التحرير، وإمكانية التوصل إلى حل لا تزال بعيدة. مجيء إدارة أميركية جديدة، وبأداء جديد لم يساعد كثيراً من هذه الناحية. هناك ثلاث ملاحظات لافتة، برزت بعد الحرب. أصبح الاهتمام الدولي، والأميركي بشكل خاص، يتركز، وقبل أي شيء آخر على منع تهريب الأسلحة إلى "حماس". لماذا؟ لأنه لا أحد يريد تكرار تجربة "حزب الله" في لبنان مرة أخرى في غزة. هناك ما يشبه الإجماع الدولي والعربي بأن الإقتراب من تكرار هذه التجربة يمثل تطوراً خطيراً قد يؤدي إلى مزيد من تدهور الأوضاع، خاصة في غزة. ومن ثم فالاهتمام بمسألة التهدئة ورفع الحصار، وفتح المعابر جزء من محاولة وضع الإطار السياسي لتحقيق الهدف نفسه، أو إحكام حدود القطاع في وجه التهريب. والأرجح أن "حماس" ستجد نفسها قريباً داخل هذا الإطار. إعطاء الأولوية لهذه المسألة من قبل المجتمع الدولي يعني أن مسألة المفاوضات، وتطبيق فكرة الدولتين تأتي بعد ذلك. حتى لغة الإدارة الأميركية الجديدة لم تتضمن شيئاً ينبئ بأن تغيراً في الموقف الأميركي من السلام قد حدث، أو على وشك أن يحدث. يقال إن الإدارة في مرحلة تأقلم، واختبار لأطراف الصراع. والذي يبدو حتى الآن أن الإدارة ترى أن الحوار مع إيران، وحل الملف النووي الإيراني أكثر إلحاحاً من موضوع تسوية الصراع العربي الإسرائيلي. وهي في ذلك أقرب إلى موقف إسرائيل. على الجانب العربي لا يزال الإنقسام قائماً رغم محاولة العاهل السعودي، عبدالله بن عبدالعزيز، كسر الجليد لفتح باب الحوار على هذا المستوى. الأسوأ ما يحصل في الجانب الفلسطيني. حيث أعادت الحرب على غزة الكثير من الإشكاليات نفسها. بعض هذه الإشكاليات لها من الدلالة أكثر مما يبدو على السطح. منها مسألة المرجعية التي تريد "حماس" تغييرها في ضوء الحرب الأخيرة، وعلاقتها بالاختلاف العميق حول النتيجة التي ترتبت عليها. هل انتهت الحرب فلسطينيا بانتصار أم بهزيمة؟ وانتصارا لمن؟ لـ"حماس" أم للشعب الفلسطيني ولقضيته تحت الاحتلال؟ هذا النوع من الجدل يعكس طبيعة المرحلة التي يمر بها العالم العربي، وتمر بها القضية. لم يعرف العرب انتصارات باهرة في هذا الصراع. أكثر ما حصلوا عليه كان نصف انتصار في حرب أكتوبر 1973، وحتى هذا لم يدم طويلا. من الطبيعي في هذا السياق أن يصبح البعض أسير إشكالية أن الصمود أمام حرب مدمرة، بنتائجها الكارثية يعد انتصاراً. مما يعبر عن مدى ما وصلت إليه حالة البؤس العربي في الصراع. يقاس الانتصار في الحرب ليس فقط بالنتيجة العسكرية للحرب، لكن أيضاً بالمكاسب السياسية التي قد تؤدي إليها. "حماس" ترى أنها انتصرت سياسياً لأنها صمدت ولم تسقط. وهي في هذا تشبه الأنظمة العربية التي تستخدم المعيار نفسه. المحزن أنه مع كثرة الانتصارات العربية التي أعلنت على أساس من هذا المعيار، بقيت القضية من دون حل، وبقي الشعب الفلسطيني ضحية لمآسي الاحتلال لأكثر من ستين عاماً. ولعل "حماس" ذهبت بعيداً في ادعاء الانتصار، والاحتفال بذلك، وتقديم سيف النصر في احتفال دمشق الأسبوع الماضي لخالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لـ"حماس". لكن ربما لا ينبغي أن تؤخذ مبالغة "حماس" بمعناها الحرفي. إذا كان الانتصار يعني بقاء المنظمة بغض النظر عن النتائج الأخرى، فهو يعني أن "حماس" تبحث عن اعتراف بها كطرف شرعي له تأثيره القوي على الساحة. لو قالت "حماس" إنها انهزمت، ستكون النتيجة معروفة سلفاً. وقد تصل إلى حد شطبها كفصيل مغامر ومتهور. من هذه الزاوية يبدو تمسكها بفكرة الانتصار مبرراً. وهنا تكمن الإشكالية. لا تريد "حماس" أن تعترف بإسرائيل. وهذا حق من حقوقها المكتسبة. لكنها في الوقت نفسه تبحث عن مشروعيتها من دول عربية تعترف بإسرائيل وتقيم معها علاقات كاملة (مصر)، ودول عربية أخرى مستعدة للاعتراف على أساس المبادرة العربية، ومن المجتمع الدولي الذي لا يعترف بإسرائيل وحسب، بل يتبناها كفكرة وكمبدأ بكل السبل، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية. هذا يعني أن "حماس" قد لا تكون مستعدة للاعتراف بإسرائيل مباشرة، لكنها مستعدة للاعتراف بأي اتفاق نهائي معها بواسطة السلطة الفلسطينية. وقد عبرت قيادة "حماس" عن هذا الموقف للرئيس الأميركي السابق، جيمي كارتر، في إبريل الماضي. يجب على "حماس" حتى في حال التوصل إلى مثل هذا الاتفاق، وهو ما يبدو بعيداً الآن، أن تتمسك بموقفها الرافض للاعتراف بإسرائيل بصيغتها الحالية كدولة لليهود. السؤال: لماذا لا تتحدث "حماس" عن هذا الموضوع تحديداً مع منظمة التحرير، وخاصة "فتح"، بشفافية؟ المثير للدهشة في هذا الإطار عدم قدرة، أو عدم استعداد الفصائل الفلسطينية للجمع بين خيار المقاومة والمفاوضات في برنامج نضالي واحد. مسؤولية السؤال لا تقع على "حماس" بمفردها. لكن يبقى أن شقة الإنقسام الفلسطيني تزداد حدة. وليس هناك من تفسير معقول لذلك إلا تداخل المصالح السياسية للفصائل مع المصلحة الوطنية العليا للقضية. الهدف المركزي لـ"حماس" الحصول على اعتراف بشرعيتها، وهدف "فتح" المحافظة على وزنها ودورها في الصراع. لماذا لا يمكن التوفيق بين الإثنين؟ هذه هي إشكالية الصراع على الدولة قبل قيامها. وهي آفة قاتلة لحركات التحرر. اختلاف الأولويات الأميركية، مع انقسام عربي، وانقسام فلسطيني أكثر حدة، لا يترك مساحة كافية لفكرة المفاوضات، دع عنك التوصل إلى اتفاق نهائي. السلطة الفلسطينية مرتبكة. وهي تدرك شرعية المقاومة وشعبيتها. خبرت ذلك من قبل. لكنها تدرك أيضاً أن الهدف الأخير لـ"حماس" هدف سياسي يخصها هي قبل غيرها. وتدرك السلطة أيضاً حقيقة النوايا الإسرائيلية. وما بين "حماس" وإسرائيل تحاول السلطة، أو منظمة التحرير، أن تجد لنفسها طريقاً ثالثاً. قناعتها أن الطريق إلى الحل لا يمر إلا عبر المفاوضات. لكن المفاوضات لم تؤد إلى شيء حتى الآن. من جانبها تعمل إسرائيل على إضعاف المنظمة والسلطة معا. و"حماس" تعمل على إيجاد شرعية بديلة، أو على الأقل شرعية منافسة لشرعية المنظمة. إصرار "حماس" على اعتراف عربي واضح بها وبشرعيتها كطرف سياسي في التسوية، وتحديداً اعتراف سعودي ومصري، وعلى قدم المساواة مع منظمة التحرير، يعكس قناعة مضمرة بأن احتضان سوريا لها لا يمنحها الغطاء الذي تحتاجه. جاءت الحرب الأخيرة لتطوي ملف الانقلاب، ولفتح ملف آخر، هو ملف الشرعية انطلاقاً من خيار الصمود والمقاومة العاري من أي غطاء سياسي يتمتع بقاعدة شعبية. يبدو وكأن الأفق الفلسطيني لا يزال مسدوداً. تداخل هذا الانقسام مع، بل وارتهانه للانقسام العربي، يزيد الأمر سوءاً. ثم يتعقد المشهد مع تعمق التوجه اليميني بين الإسرائيليين عشية الانتخابات، وهو توجه يرفض خيار السلام، ويفضل الركون إلى خيار القوة. عندما تأخذ هذه الملاحظات، وفقاً للفرضيات السائدة عما يسمى بخيار السلام، وتضع كل واحدة منها بجانب الأخرى، تجد أن إمكانية التوصل إلى حل أو سلام في المنطقة تبدو أبعد كثيراً مما كانت عليه سابقاً. هل دخلت "حماس"، من هذه الزاوية، في لعبة ليست تحت سيطرتها. قوة "حماس" تنبع في الأساس من الشارع الفلسطيني، والشارع العربي كقوة مقاومة في سبيل تحرير فلسطين، وبيت المقدس. دخولها لعبة الانقلاب، ثم المواجهة العسكرية مع الإسرائيليين، أرغم "حماس" على الارتباط بدول لها حسابات وخيارات لا تتفق مع خياراتها وأهدافها. وبالتالي ستجد "حماس" نفسها في مرات كثيرة مجبرة على المسايرة والمجاراة حفاظاً على مكتسباتها. حصل ذلك من قبل مع فصائل فلسطينية أخرى. وانتهى الأمر بها للاعتماد على دعم هذا النظام السياسي العربي أو ذاك. وهنا تبرز المهارة السياسية للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. حيث نجح في جعل "فتح" أقوى الفصائل الفلسطينية، وأكثرها شعبية. ثم جاء خطأ الانجرار مع صدام أثناء الأزمة التي فجرها غزو الكويت. عندها رست سفينة عرفات، ومعه سفينة المنظمة عند خيار المفاوضات، والتخلي عن المقاومة. للأمانة تحاول "حماس" المحافظة على شيء من التوازن في علاقاتها العربية. لكن بعض الأطراف تطلب وضوحاً على قاعدة "من ليس معي فهو ضدي". هل تنتهي "حماس" بإعادة تجربة "فتح" مرة أخرى؟