قد يحسد المراقبون منظمة الاتحاد الأفريقي التي تجتمع بهذا الانتظام، بل والرتابة دون ملل منذ خمسة وأربعين عاماً، بل إن مؤسسي "الاتحاد" في طبعته الأخيرة من 2001 جعلوا اجتماع القمة كل ستة شهور، حتى يعفوا أنفسهم من الاجتماعات الطارئة أو بالأحرى لتتحول "القمة"إلى قوة تنفيذية. ولذا جاء اجتماع أديس أبابا في مقر الاتحاد في الأسبوع الأول من فبراير 2009 تالياً مباشرة لاجتماع شرم الشيخ في يوليو 2008. ويكاد الرؤساء أن يكونوا قد اتفقوا على تسمية مفوضية الاتحاد "سلطة أو إدارة الاتحاد". كذلك أراح الأفارقة أنفسهم من مشكلة اختيار رؤساء الدورات فجعلوها بالتتابع لمدة عام ووفق المناطق الخمس التي تنقسم إليها القارة عادة، وبناء على هذا وضعوا ليبيا دائماًِ في "أزمة" عقب سعيها لإعلان مبدأ" الاتحاد الأفريقي" في بيان "سيرت" 1999 وفي 9-9 بالتحديد، فلم يحتشد الرؤساء في طرابلس لهذا الغرض بسبب "الدور"، ومن ثم أُعلن "الاتحاد" رسمياً في توجو ثم مابوتو (2001-2002). وها هي رئاسة الاتحاد تأتي ليبيا بنفس الموقف تقريباً عام 2009 ، حيث تأتي الرئاسة نتيجة "الدور" الآتي لشمال القارة مع غياب أية منافسة من الآخرين في الإقليم، بينما كانت ليبيا تريدها تتويجاً لجهودها في إقامة "الولايات المتحدة الأفريقية". لكن جنوب أفريقيا وغانا ونيجيريا ونسبياً تنزانيا وإثيوبيا يتصدون لهذه الرغبة بقوة قد لا تجعل الاجتماع القادم في يوليو 2009 (وغالباً في طرابلس) اجتماعاً سعيداً كما يتوقع الليبيون. ونحن الدارسون للواقع الأفريقي، لا يسعنا إلا الأسف من تصدير المشاكل بأكبر نسبة من الشمال العربي إلى الواقع الأفريقي، بينما الجميع ينتظر مساهمة أكبر من عالم الحضارة العربية والإسلامية إلى العالم الجديد، الذي ما زال يصيغ حضوره السياسي الدولي على مستوى القارة. وقد ثبت لي للأسف -من واقع الخبرة - أن الواقع الأفريقي أقرب إلى سلوك الحداثة والعقلانية من الواقع العربي، حتى وإن كان ذلك مقروناً بواقع الصراع بين أصحاب المشاكل الموروثة، والطامعين الجدد فضلاً عن استمرار الفعل الخارجي. الأسلوب الأفريقي واضح في استمرار دفع المعالجات الأفريقية بشكل مؤسسي في أكثر من موقع، وقبول القرارات العقلانية في أكثر من مناسبة حتى أن بعضها يحمل ملامح تحدٍ لا يقدرون عليه، ومثال ذلك تحديهم لإسرائيل في أكثر من مناسبة بتقييد التعامل معها ( 67-1973) ومؤخراً إدانة عدوانها على غزة وطلب المحاكمات على جرائم الحرب. ومثال آخر كان التحدي بطلب استقلالية قوات حفظ السلام الأفريقية في دارفور مهما كانت درجة التنسيق – بل والاحتياج – لدعم قوات الأمم المتحدة، وعند الضرورة يقوم الأفارقة بعملية التنسيق والتوافق دون انقسامات حادة معلنة على النحو العربي، فثمة قبول وتنسيق للاستفادة من القمم التي تعقدها الصين واليابان والهند وكوريا وقبلها الفرانكفونية والأميركية مع دول الاتحاد الأفريقي، وبذلك أعطت القمم الأفريقية الأسبقية للتعاون في الدائرة الاقتصادية، وجنبت القارة الانقسامات السياسية الحادة من حول قضايا تهلك العرب مثل الشرق أوسطية، والمتوسطية، وحتى الحوار العربي- الأوروبي أو العربي- الأفريقي، وفي هذا الجو الانقسامي استحال عقد مؤتمر القمة العربية- الأفريقية الثاني بعد اجتماع مارس 1977. والأفارقة يتهمون العرب دائماً بأنهم مصدر الشقاق الأفريقي الحاد في مناطق ذات طابع عربي- أفريقي بالأساس، ومسؤولية عربية أكبر. ومثالهم منذ أربعة عقود في الصحراء الغربية (من 1973) مما أدى لانسحاب المغرب من الاتحاد، ومثل قضايا الصراع في" تشاد" وإحراج موقف ليبيا الدائم هناك، وقضية الصومال التي أدت لممارسة الاحتلال على يد دولة أفريقية بينما الصومال في الجامعة العربية! ومن ذلك طبعاً مشكلة دارفور، التي أثارت مباشرة دعاوى أفريقية ضد حكم عربي لا يريد الاستجابة بشكل مناسب لحل اجتماعي ديمقراطي من السهل التوصل إليه، وإنْ كنا نسجل للاتحاد موقفه الإيجابي من قرار المحكمة الجنائية الدولية لصالح النظام السوداني ومناشدة المجتمع الدولي بتأجيل المشكلة. بعض هذه المشاكل يحتاج لوعي عربي عالٍ لإبقاء القارة الأفريقية سنداً قوياً في مناطق الجوار كما تفعل كثير من الدول والكتل، وسلوك تركيا مثال على ذلك، حتى مع أفريقيا البعيدة عنها. وتتحمل بعض الدول العربية مثل مصر والخليج دوراً أكبر في هذا الصدد، سواء على الجانب السياسي لمصر أو الجانب الاقتصادي للخليجيين ، وهذا ما زال مطروحاً على المستوى المؤسسي، ولا نقول بمجرد العمل الدبلوماسي الذي لا نجيده أيضاً! قد يتجه الانتباه لكل ذلك برئاسة العقيد القذافي للاتحاد في دورته الحالية. تستطيع القيادة الجديدة للاتحاد الأفريقي، أن تؤكد وضع الاتحاد على المستوى الدولي في لحظة يشهد العالم قيادة أميركية جديدة طموحة بدورها تحت شعار "التعاون مع الجميع." لكن لا ينفع معها فرض الهتافات. وتواجه القيادة الجديدة للاتحاد مطلب تنسيق العلاقات مع الكتل أو الدول الكبرى لدعم "خطة الطريق" الأفريقية للتنمية وبناء الاتحاد 2009-2012، وكذلك العمل على جذب الاستثمارات الصينية واليابانية والعربية فضلاً عن ضبط إيقاع طموح الرئيس ساركوزى، والاتحاد الأوروبى نحو شمال القارة تارة، ودول الفرانكفونية تارة أخرى. ولعل رئاسة القذافي الغنية بالوعود تقلل من حالة تقسيم القارة بين شمالها الذى بات يأخذ وضع "جنوب المتوسط" الفرنسي، وجنوب الصحراء الذي يتشكل كمنطقة تنافس فرنسية أخرى مع الأميركيين وليبيا في الوقت نفسه، مما جعل تصريحات القذافي تبدأ ساخنة ضد "الاتحاد من أجل المتوسط"، مع عدم وضوح الخطة العربية أو الأفريقية في هذا الصدد، خاصة بعد تردي الدور الأوروبي إزاء ما حدث في غزة وفلسطين عموماً. سوف يكون للقيادة الجديدة للاتحاد الأفريقي، فرصة لتجديد الدور العربي إزاء الصومال، وهو الذي قد يهدأ نسبياً على يد شيخ شريف شيخ أحمد، وإزاء زيمبابوى إذا هدأت بتشكيل حكومة وحدة وطنية حقيقية، كما سيتعامل القذافي مع مشكلة دارفور بصفته العربية من جهة، وصفته كصاحب علاقات قوية مع أطراف الأزمة الدارفورية في الخرطوم ونجامينا من جهة أخرى، ليتجنب وضع السلوك الليبي أكثر من مرة موضع تشكك هذه العواصم المجاورة لليبيا. تستطيع الاستثمارات الليبية المنتشرة في أنحاء أفريقيا، من داكار إلى مدغشقر أن تنسق مع الجهد العربي - لو شاءت- لإعادة صيغة التعاون العربي- الأفريقي، بل والقمة العربية الأفريقية بشكل جديد وفعال، وتستطيع أن تدفع بآليات تنظيم "النيباد" الذي عقد قمته العشرين في أديس أبابا نفسها مع القمة الأفريقية، دون أن يشعر أحد بأهمية هذا الجهاز التنسيقي المهم للتنمية الأفريقية مهما كان الرأي في صيغته، بل وتستطيع القيادة الجديدة أن تدفع بنداءات المجموعة الأفريقية للرأي العام العالمي حول سلوك إسرائيل في فلسطين، وحول ضغط المحكمة الجنائية الدولية على النظام السوداني، لو طلب هذا النظام مهلة لمعالجة الموقف داخلياً بدل انتظار الكارثة بضغط الخارج. هذه الفرص جميعاً قابلة لدفع صورة الاتحاد الأفريقي على الساحة الدولية بشكل إيجابي فعلًا حتى مع تشاؤم الكثيرين حول دعوات الوحدة الشاملة للولايات الأفريقية المتحدة، أو استيائهم من مظاهرات "ملك الملوك" غير ذات المصداقية. إن الاتحاد الأفريقي يملك أجهزة مؤسسية عقلانية بالغة الدلالة والتأثير لو أردنا لها ذلك، فالأمين العام "جان بنج" الوزير الكاميروني السابق يتسم بموضوعية وكفاءة معروفة، ومفوضية الاتحاد أسسها "كوناري" مدعومة بعدد من الشخصيات المعاونة، وثمة وزير خارجية بوركينا فاسو الذي أتفق على دوره كمنسق للعلاقات بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، حول قوات حفظ السلام ومشكلة دارفور وغيرها، وثمة جدل فكري متقدم من لجان مسؤولة ناقشت أسس الاتحاد الأفريقي وبدائله ووضعت "لجنة الخبراء" تقريرها للقمة والرئاسة وفق سيناريوهات محددة عن "الاندماج"، أو "التقسيم الإقليمي" و"المجموعات" المتوافقة ...الخ، وهو ما يكاد ينتهي إلى إعادة تسمية "المفوضية" فقط "بالسلطة” (العليا مثلًا) أو "إدارة الاتحاد"، وذلك ترضية للأخ العقيد، لوقف دعوة الولايات المتحدة الأفريقية. والكل يأمل أن تسود العقلانية لا المظاهرات في مسيرة الاتحاد مع تطوراته الجديدة.