إذا كانت الأطُر الأخلاقيّة مطلوبة في كلّ مجالات الحياة، وفي كلّ عمل أو سلوك، فإنّها ذات قيمة استثنائيّة في مجال الصّحافة والإعلام بشكل عام، ومن هنا تأتي أهميّة "مؤتمر مبادرة الصحافة الأخلاقيّة"، الذي استضافته دولة الإمارات العربيّة المتّحدة على مدى اليومين الماضيين بمشاركة ممثلي نقابات الصحافيين وجمعيّاتهم في أكثر من عشرين دولة، إضافة إلى الاتّحاد الدّولي للصّحافيين. توصف الصّحافة بأنّها السلطة الرّابعة وصاحبة الجلالة، وهما وصفان يعكسان ما تمتلكه من تأثير كبير في المجتمع، أيّ مجتمع، على المستويات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة، فهي ناقلة الأخبار والمعلومات، وصانعة التوجّهات والأفكار والقيم، وكاشفة عن مظاهر الخلل والانحراف، ومعبّرة عن آراء الناس ومشكلاتهم وطموحاتهم، وأداة التفاعل بينهم وبين السلطة، وبالتالي فإنّها تؤدّي دوراً محورياً وحساساً في الوقت نفسه. هذا الدور مثلما يمكن أن يكون إيجابياً وبناءً، فإنّه يمكن أن يكون سلبياً وهدّاماً أيضاً، إذا لم يراعِ المعايير المهنيّة والأخلاقيّة التي تترجم الهدف الأساسيّ للعمل الصحفيّ، وهو المساهمة في بناء المجتمع وتنميته وتقدّمه ورقيّه. الحريّة شرط أساسيّ لأي عمل صحفيّ، لأنّ وضع القيود عليه تفقده جوهره ومضمونه، ومن هنا تأتي حساسية هذا العمل، لأنّه مع الحرية الكبيرة التي من المهمّ أن تكون متاحة له، من المهمّ أن يتمّ استخدامها بمسؤوليّة وحسّ وطنيّ وأخلاقيّ، بحيث لا يساء استخدامها، أو يتمّ توجيهها في الاتّجاهات الخطأ، ومن هنا تأتي مواثيق الشرف الصحفيّة التي تحدّد المعايير المهنيّة والأخلاقيّة لممارسة مهنة الصحافة، بما لا يحرفها عن هدفها الحقيقي. ومهما كانت التدابير والقوانين والآليّات التي تحاول منع الصّحافة من إساءة استخدام الحريّة الممنوحة لها، فإنّه من دون توافر معايير الأخلاق والمهنيّة لديها تصبح هذه الآليّات والتدابير من دون أيّ فائدة، لأنّ الأمر ينبع أولاً وقبل كل شيء من داخل الصحفي قبل أن يأتي من خارجه، وهنا تأتي أهميّة أيّ مبادرة تعمل على تعزيز المعايير الأخلاقيّة والمهنيّة في العمل الصحفيّ، وتكريس القيم الخاصة به. ولعلّ من أهم ملامح هذه المعايير البعد عن ترويج الأحقاد أو بذر بذور الكراهية بين الثقافات والحضارات، ونقل الأخبار والمعلومات بأمانة وفي سياقها الصحيح، والبعد عن النَّيل من الأديان أو المعتقدات والمقدّسات، أو التشجيع على الفتن الطائفيّة والمذهبيّة، وعدم الخوض في الأمور الشخصيّة، أو ملاحقة الناس في حياتهم الخاصة بحثاً عن الإثارة، ومراعاة تقاليد المجتمعات المختلفة وعاداتها، وعدم الخروج عليها، وعدم الخضوع للمصالح الشخصيّة، وأداء العمل بتجرّد من أيّ مصلحة، ورفض ترويج الشائعات، وإعلاء المهنيّة والأخلاق على أيّ رغبة في سبق صحفي مهما كانت قوته، وغير ذلك كثير من الأمور التي تصطفّ كلها تحت عنوان كبير هو الممارسة الصحفيّة الإيجابيّة والبناءة. وإذا كانت هذه المعايير تختلف في تفاصيلها من مجتمع إلى آخر، فإنّها تتفق جميعها في أمر واحد هو أنّها تهدف إلى جعل الصّحافة أداة إصلاح وتنمية واستقرار، وليست أداة هدم واضطراب وصراع. لقد تصاعد دور الصحافة خلال السّنوات الماضية، ضمن تصاعد دور الإعلام بشكل عام، في ظلّ ثورة المعلومات والاتصالات على المستوى الدولي، ومع هذا التصاعد ظهر الكثير من الممارسات السلبيّة التي تتخذ من الحرية شعاراً لها، في حين أنها تسيء إلى الأديان وتشجّع على الصدام والصراع بين الأمم والشعوب والثقافات المختلفة، ومن هنا كان لابدّ من التصدي لها ومنعها من الاستمرار أو التفاقم، والتعويل الكبير في ذلك على مبادرة الصحافة الأخلاقيّة وغيرها من المبادرات التي تعمل على إعادة الاعتبار إلى المعايير المهنيّة والأخلاقيّة مرة أخرى في العمل الصحفي، بعد أن تعرضت، لأسباب مختلفة، إلى مشكلات عديدة.