الأزمة الطاحنة التي تواجه العالم الآن بدأت في صورة أزمة عقارية مفاجئة، ثم تحولت إلى عُسر ائتماني، وانتهت إلى أزمة مالية عالمية. وفي القمة الاقتصادية العالمية التي عقدت الاسبوع الأخير في منتجع "دافوس" السويسري، وجهت روسيا والصين اللوم على حدوث هذه الأزمة لأميركا، ولام الجميع البنوك، التي ألقت باللوم عليَّ وعليك في نهاية المطاف. ومن المكان الذي كنت جالساً فيه في مقر القمة كان بإمكاني أن أتبين أن أغلبية الحاضرين كانوا يعانون من "القهر العظيم" -على وزن الكساد العظيم- حيث كانوا يشعرون بالقلق العميق مما يسمعونه من ناحية، ومن ناحية أخرى كانوا ينكرون من حيث الجوهر طبيعة المشكلة وجسامتها. بعض الحاضرين تنبأ بالوصول إلى قاع الكساد بحلول منتصف العام الحالي، والبعض الآخر ادعى أن الصين والهند ستمثلان قاطرتي التعافي، ولكن العقلاء والأقوياء، في الأغلب الأعم، قرروا أن يثقوا بأن "جون ماينارد كينز" هو الذي سينقذنا جميعا. لم أسمع أي نقد تقريبا لحزمة التحفيز الاقتصادي لإدارة أوباما التي تبلغ 819 مليار دولار، والتي تنتظر الموافقة من قبل الكونجرس. والافتراض العام السائد كان هو أن أي نوع من الإنفاق الحكومي، سوف يكون نافعاً، وكلما كان العجز الناشئ عن ذلك أكبر كلما كان ذلك أفضل. هناك نوع من الإصرار اليائس من جانب علماء الاقتصاد على التمسك بما جاء في نسخهم العتيقة من كتاب "كينز" الذائع الصيت "النظرية العامة"، على الرغم من أنهم يعرفون - ولا يرتاحون لهذه المعرفة ـ أن علم الاقتصاد قد فشل فشلًا شبه تام في التنبؤ بالأزمة الحالية. وعلى ما يبدو أن هؤلاء العلماء يرتدون الآن إلى مرحلة طفولتهم الماكرو ـ اقتصادية، ويتعلقون بأهداب مفهوم"الأثر المضاعف" الكينزي الذي يعني أن كل دولار يتم إنفاقه بواسطة الحكومة يولِدْ ناتجا اقتصادياً إضافياً تفوق قيمته الدولار. على هؤلاء العلماء أن ينضجوا ويواجهوا الحقيقة القاسية وهي: أن العالم الغربي يعاني من أزمة مديونية طاحنة، وأن الحكومات، والمؤسسات، والعائلات تئن تحت ثقل ديون لم يسبق لها مثيل، حيث وصلت نسبة ديون العائلة الأميركية العادية إلى 141% من الدخل المتاح (الجاهز للتصرف) في الولايات المتحدة، و171% في بريطانيا. والأسوأ من ذلك كله هو البنوك، حيث تبين أن ديون بعض من أكثر بنوك العالم شهرة في أميركا أو أوروبا تفوق رأسمالها بمقدار أربعين إلى ستين مرة بل ومئة مرة في بعض الحالات. والوهم الذي ينتاب البعض أحياناً من أن أي أزمة ديون زائدة يمكن حلها من خلال خلق المزيد من الدين، كان هو السبب الجوهري في الكساد العظيم. ومع ذلك، فإن معظم الحكومات لا تتردد أمام اقتراح نفس الشيء في الوقت الراهن. في مثل هذه الحالة، يمكن أن ينتهي الأمر بالولايات المتحدة إلى إدارة عجز يزيد عن10% من الناتج القومي الإجمالي هذا العام (بإضافة كلفة حزمة الحفز الاقتصادي إلى التنبؤ المتفائل لمكتب الميزانية في الكونجرس والذي يحدد هذا الرقم بـ8.3 %). وليس هذا كل شيء، إذ يجب أن نتذكر أيضاً أن إدارة بوش قد خصصت العام الماضي7.8 تريليون دولار لمخططات الإنقاذ، على شكل قروض، واستثمارات، وضمانات. وفي الوقت الراهن يدور الحديث حول إمكانية أن يتقدم" بنك رديء" لشراء "الأصول السامة"، التي لا يستطيع برنامج تخفيف أعباء الأصول المضطرب معالجتها. ولا يبدو أن أحداً قد لاحظ أنه يوجد هناك بالفعل "بنك رديء" يسمى"الاحتياطي الفيدرالي"، وأن ميزانيته قد ارتفعت من 900 مليار دولار إلى ما يزيد عن 2 تريليون دولار منذ أن بدأت هذه الأزمة، وهو ما يرجع إلى قيامه بشراء أصول غير معلن عن طبيعتها من البنوك. ولكن ما مقدار "الفاقد السام" الذي لا يزال موجوداً هناك؟ يقدر "نورييل روبيني" استاذ الاقتصاد بجامعة نيويورك خسارة بنوك الولايات المتحدة جراء الديون والأوراق المالية الرديئة بـ 1.8 تريليون دولار. وحتى لو افترضنا أن هذا التقدير مبالغ فيه بنسبة 40% فقط، فإن معني ذلك أن رأس مال البنوك سوف يظل ممحوا. ونظراً لانكماش الاقتصاد بخطى حثيثة، فإن ذلك يضعنا على حافة انفجار ديوني. وعلى ما يبدو أن "الكينزيين المولودين مرة أخرى"، قد نسوا أن وصفتهم تلك يمكن أن تنجح في اقتصاد مغلق في حين أننا نحيا في عالم معولم يحتمل أن تؤدي فيه إجراءات الحكومات المحلية الخاصة بالإسراف الإنفاقي غير المنسق إلى خلق حالة من التذبذب وعدم الاستقرار في أسواق السندات والعملات بدلًا من أن تؤدي إلى المساعدة إلى وضع تلك الأسواق على طريق النمو مرة ثانية. الحل السليم يكمن في الذهاب إلى الاتجاه المعاكس: فبدلاً من العمل على زيادة الدين يجب العمل على إنقاصه. كيف يمكن أن يتم ذلك؟ أولًا، من خلال العمل على إعادة هيكلة -وليس تأميم - البنوك المتعسرة بالفعل. في هذه الحالة سيضطر حملة أسهم تلك البنوك إلى القبول بحقيقة أنهم قد فقدوا أموالهم. شيء يدعو للأسف في الحقيقة!. ولكن أما كان يجب على هؤلاء أن يكونوا أكثر يقظة في مراقبة الأشخاص الذين كانوا يديرون البنوك! في هذه الحالة تتولى الحكومة السيطرة والتحكم في تلك البنوك في مقابل إعادة رسملتها بمبالغ ضخمة، ولكن بعد أن يكون قد تم تقليل قيمة الخسائر التي تعرض لها حملة الأسهم بدرجة معقولة (قد يجد حملة الأسهم أنفسهم مضطرين إلى القبول بصفقة تبادلية يتم من خلالها مبادلة الدين بحق الملكية أو قبول خصم 20% من قيمة الأموال التي كانت مستحقة لهم). شيء يدعو للأسف، أليس كذلك؟ نعم، ولكن ذلك لا يقارن بالخسائر التي تحملها حملة الأسهم عندما انهار بنك "ليمان براذرز". الخطوة الثانية التي يتعين علينا أخذها هي عملية تحويل عمومية للديون العقارية الأميركية إلى معدلات فائدة أكثر انخفاضاً، وفترات استحقاق أطول. هناك في الوقت الراهن 2.3 مليون أسرة أميركية تقريباً تواجه احتمال الحجز على منازلها بسبب تأخرها في السداد في الأوقات المحددة، وهو عدد من المؤكد أنه سيرتفع مع تفاقم الأزمة ومع استمرار أسعار العقارات في الهبوط. ما العمل إذن؟ الحل مرة أخرى هو تدخل الدولة. الحريصون على النقاء الاقتصادي والمالي يقولون إن تدخل الدولة سيؤثر على قدسية التعاقد. هذا صحيح، ولكن يجب على هؤلاء أن يعرفوا أن هناك ظروفاً قد تحتم ذلك. ففي القرن التاسع عشر على سبيل المثال، كانت الحكومات تقوم حين الحاجة بتغيير شروط الأسهم والسندات التي أصدرتها هي نفسها من خلال عملية تعرف باسم "التحويل": فالسهم الذي كان يستحق عائداً بنسبة 5% كان يتم تغييره بسهم آخر يستحق عائدا مقداره 3% ونادراً ما كان يتم توصيف مثل تلك العملية بأنها عبارة عن تقصير من جانب الدولة عن السداد في الموعد المحدد وبالنسبة المحددة. ليس هناك شك في أن الذين سيخسرون من قبل هذه الإجراءات سيعانون في صمت، ولكن الشيء الذي قد يخفف عنهم، هو أن يعرفوا أن المزايا التي ستعود عليهم بناء على تلك الإجراءات قد تفوق الخسائر التي تعرضوا لها في نهاية المطاف، وهو ما ينطبق بشكل خاص على حملة أسهم وسندات البنوك ومالكي الأوراق المالية المالية المدعومة بعقارات. إن الأميركيين كما قال "تشرشل" ذات يوم يفعلون الشيء الصائب في النهاية، وبعد أن يكونوا قد استنفذوا كافة البدائل. وإذا كنا سنظل في انتظار "كينز" كي يأتي وينقذنا عندما يأتي موعد قمة"دافوس" في العام المقبل، فإن الوقت حينئذ سيكون قد تأخر كثيراً. فقط "إعادة الهيكلة العظيمة"، هي القادرة على إنهاء "القهر العظيم" بشرط أن تأتي سريعاً... اليوم قبل الغد. نيال فيرجسون ــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ بجامعة هارفارد وزميل رئيسي بمؤسسة هوفر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"