دخل رايان كروكر، السفير الأميركي في العراق، تاريخ بلاده، الدبلوماسي والعسكري، حين قدّم رفقة قائد القوات الأميركية هناك، تقريرين شهيرين أمام الكونغرس قبل أقل من عامين، لينهيا جدلا ناشباً في حينه بين الحزبين الرئيسيين حول مشروع بوش لزيادة القوات الأميركية في العراق. كما ارتبط اسمه بتطورات بارزة في عراق ما بعد صدام حسين، لاسيما ظهور مجالس الصحوة، وعمليات إعادة تشكل الحياة الحزبية وتحالفاتها، ولقاءات الحوار الأميركي الإيراني في بغداد. لكن هاهو كروكر يستعد لجمع حقائبه مغادراً العراق، ليحل محله كريستوفر هيل، الدبلوماسي والمفاوض الأميركي السابق، الذي أعلنت واشنطن، الثلاثاء الماضي، اختياره كسفير لها في بغداد. وإن كان البيت الأبيض لم يصدر إعلاناً رسمياً إلى الآن في هذا الشأن، فإن القرار بات في حكم المؤكد، لاسيما بعد استبعاد ترشيح الجنرال انتوني زيني، القائد الأميركي الأعلى سابقاً في الشرق الأوسط، لمنصب الممثل الدبلوماسي الأعلى لبلاده في بغداد. فمن هو كريستوفر هيل؟ وهل في سجل تاريخه من خبرات النجاح ما يؤهله للمهمة الجديدة؟ يعد هيل أحد أكفأ الدبلوماسيين الأميركيين، فقد شغل مناصب عديدة في وزارة الخارجية، وعمل سفيراً لبلاده في عدة دول أوروبية وآسيوية، وهو حاصل على شهادة الماجستير من الكلية العسكرية البحرية، وعلى شهادة في الاقتصاد، ويعتبر "مفاوضاً بارعاً يستطيع الحصول على ما يريده من الطرف الآخر". وقد ولد هيل لأحد دبلوماسيي الخارجية الأميركية عام 1952، وسافر منذ صغره إلى العديد من البلدان. وحين تعرض الدبلوماسيون الأميركيون في هاييتي للطرد، انتقلت أسرة الطفل هيل إلى بلدة "ليتل كوميتون" في انيو انجلاند حيث التحق بمدرستها، ثم انضم إلى كلية "بودوين" ليتخرج منها بشهادة في الاقتصاد عام 1974. وفي عام 1977 أصبح موظفاً بوزارة الخارجية الأميركية، وتقلب بين عدة إدارات فيها قبل تعيينه مستشاراً اقتصادياً بالسفارة الأميركية في سيئول عام 1983. لكنه عاد إلى وزارة الخارجية في واشنطن وشغل عدة وظائف، إلى أن عين عام 1996 سفيراً لبلاده في مقدونيا، ثم مبعوثاً خاصاً إلى كوسوفو عام 1999، فسفيراً في بولندا حتى عام2004، ومنها إلى جمهورية كوريا حيث قال يوم وصوله سيئول: "كنت هنا من قبل، لكني لن أكتفي بخبرتي السابقة، بل أحتاج الاستماع إلى آراء كثيرة لفهم ما يجري حالياً". لكن في نوفمبر 2006، رشحه بوش لمنصب مساعد وزيرة الخارجية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ، حيث بقي حتى نهاية الولاية الثانية لإدارة بوش. خلال حياته الدبلوماسية شارك هيل في اثنتين من أشهر معارك الخارجية الأميركية، أولاهما في البلقان، وثانيتهما في كوريا الشمالية. وإن كانت الأولى ناجحة بمقاييس عديدة، فإن الثانية مازالت تتعثر دون بلوغ أهدافها. كان هيل عضواً في فريق التفاوض الذي أشرف على تسوية قضايا البلقان، حيث عمل مع ريتشارد هولبروك وكان نائبه في إدارة محادثات "دايتون" عام 1995، وهي محادثات أفضت إلى توقيع اتفاق سلام بين الفصائل المتحاربة في البوسنة. وقد وصف هولبروك مساعده هيل قائلاً إنه "يجيد الجدل الخلاق، ولا يعرف الخوف". فيما قال هيل عن مفاوضات "دايتون"، مع البوسنيين والصرب والكروات، إنها كانت ناجحة لأن جميع الأطراف "كانت مستعدة للتسوية الشاملة". أما المهمة الثانية فكانت قيادته الوفد الأميركي في مفاوضات "اللجنة السداسية" حول البرنامج النووي لكوريا الشمالية. وهي اللجنة التي أجرت منذ إنشائها في عام 2003 خمس جولات من التفاوض، أفضت الأخيرة منها في يناير 2007 إلى موافقة كوريا الشمالية على إغلاق منشآتها النووية مقابل رفع اسمها من القائمة الأميركية للدول المتهمة برعاية الإرهاب، ومنحها معونات أميركية لتوليد الطاقة، وتطبيع علاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع واشنطن وطوكيو. وبالفعل فقد شرعت كوريا الشمالية في إنهاء مشروعها النووي، بما في ذلك تفكيك 805% من مجمع "يونج بيون" النووي. لكن الاتفاق تعرض لانتكاسة في سبتمبر 2008 حين قامت كوريا الشمالية بطرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، معلنة نيتها إعادة تشغيل مجمع "يونج بيون"، وعللت ذلك بالقول إن الولايات المتحدة لم تف بالتزاماتها الواردة في اتفاق يناير 2007. وفي محاولة لإنقاذ الاتفاق أدى هيل في أكتوبر الماضي زيارة إلى بيونج يانج لإقناع قادتها بالعدول عن تهديداتهم، بيد أن مفتشي الوكالة لم يعودوا لمواصلة مهامهم هناك إلى الآن، لكن دون أن تعلن رسيماً كوريا الشمالية استئناف أنشطتها النووية، مما يعني نصف نجاح ونصف فشل لمهمة كريستوفر هيل. أما مهمته المنتظرة في العراق، والذي احتلته أميركا متحججة بتهم نووية أيضاً، فليست أقل تعقيداً ومشقة من مهمته السابقة. فسيكون هيل مسؤولاً عن إدارة ثلاثة آلاف شخص هم موظفو السفارة التي اكتملت أعمال إنشائها الشهر الماضي لتكون أضخم سفارة في العالم قاطبة. إضافة إلى صلته بكثير من الملفات العراقية في مرحلة ستتحدد معالمها العامة على ضوء الانسحاب العسكري الأميركي، ومآل التجاذبات الحالية حول نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة، وما إذا كان التحسن الأمني المسجل حقيقياً وراسخاً أم شكلياً وهشاً. لكن قبل ذلك يتعين أن يجيز مجلس الشيوخ تعيين هيل كأعلى دبلوماسي أميركي في العراق، وهو ما قد يستغرق وقتاً، بسبب الفوضى التي سادت الإدارة الجديدة في مسألة اختيار من سيكون سفيراً لها في العراق. حيث كان الاختيار قد وقع على زيني وتم إبلاغه شخصياً لكن الإدارة عدلت عنه "تجنباً لتعيين عدد كبير من الجنرالات في مناصب دبلوماسية"، ليقع الاختيار بدلاً منه على هيل... فهل سيكون العراق محطة نوعية لزيادة رصيد سجله من "النجاحات" المحدودة، أي بطاقة عبور لدخول التاريخ الأميركي؟ محمد ولد المنى