تعرّف الدبلوماسية بأنها وسيلة الاتصال الناجحة بين الناس! وهي التي حفظت الجنس البشري من الانقراض، حيث قضت على التقاتل والتحارب من أجل الفوز بلقمة العيش، أو الحجم الأكبر من الأراضي والمغانم. وكانت إشارات الألوان والأشكال والنار والإيماءات الجسدية من ملامح الدبلوماسية في تشكلها الأول. حتى تطورت فيما بعد وأصبحت الرسائل المكتوبة -سواء في العهد السومري أو الفرعوني- أو في رسائل (الهدهد) في عهد النبي سليمان عليه السلام. وفي عهود متطورة ظهرت الرسائل في عهد النبوة حيث أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم دبلوماسييه (حاملي الرسائل) إلى كل من نجاشي الحبشة والمقوقس عظيم القبط وهرقل عظيم الروم وكسرى الفرس. واهتمت تلك الرسائل بالمدونات الدبلوماسية من المرسل إلى التحية إلى الموضوع ثم الخاتمة والتوقيع. كما تطورت أشكال الاتصال الدبلوماسية في عهود الأباطرة في أوروبا والصين والهند اعتباراً من القرن الخامس عشر الميلادي. والدبلوماسية فن رفيع، يتمثل في العديد من السلوكيات والأنماط الاتصالية الاجتماعية والمزايا الشخصية، والثقافة العامة، بل والأذواق العالية في اختيار الملابس، والكلمات، والأوقات والمواضيع المناسبة لكل مقام. ومن صفات الدبلوماسي العالية تحليه بالاعتدال في السلوك والتفاعل الهادئ مع الأحداث والحوارات والشخصيات، وإبداء الموضوعية مع المشكلات التي تعترض حياته، وقوة الشخصية التي تجعله ثابتاً أمام المغريات التي لربما يتعرض لها خلال عمله الدبلوماسي. وكذلك تجنبه العصبية والاستهتار والانزلاق في الحكم على الأمور، مما يجعل منه إنساناً نزقاً وغير قابل للحوار أو الصمود في وجه المشكلات. غير أن بعض الدبلوماسيين يشترون ملابس فاخرة وغالية الثمن، لكن شخصياتهم الضعيفة أو غير السوية، لا تسترها تلك الملابس الغالية! فأحياناً تجد دبلوماسياً فظاً غير محبوب ولا يتحبب للناس، يتحدث بلهجة استعلائية ويتعامل مع موظفيه وكأنهم خدم لديه، بل وتجده لا يتابع الأخبار ولا يدري ماذا يحدث في بلده أو البلد المجاور. بل إن بعضهم لا ينتبهون لشكل ملابسهم ومدى نظافتها أو نظافتهم هم أنفسهم! وتجد آخر عجولاً لا يصبر حتى تكمل حديثك، ينقضّ عليك بحديث طويل وكأنه الفارس الوحيد في المجلس. ومن سمات الدبلوماسي الناجح أن يكون صريحاً وصادقاً، ومن الخطأ أن يقيم الدبلوماسي علاقاته مع الآخرين -مهما كان مستواهم- على الكذب أو الرياء، أو أن يعطي وعوداً لا يستطيع الوفاء بها. والصراحة هنا لا تعني الكشف عن المعلومات السرية التي يجب أن يحتفظ بها الدبلوماسي، أو تلك المتعلقة بسياسات بلاده. وإذا كان التمثيل الدبلوماسي من المهام الرئيسية للدبلوماسي في البلد الموفد إليه، فإن تقديم أوراق الاعتماد من أهم المراسم في السلوكيات الدبلوماسية، وتأتي بعدها السلوكيات الاجتماعية للسفير أو القائم مقامه، من حيث زيارة المسؤولين بعد تقديم أوراق الاعتماد، وأعضاء السلك الدبلوماسي، وحضور حفلات السفراء الآخرين. ولهذه الحفلات بروتوكولات خاصة من حيث توجيه الدعوات، والاعتذار عن الحضور، أو قبول الدعوة، والتصرفات العامة أمام الآخرين، وحسن الهندام والحديث المقبول الرزين وغيرها. وللأسف، صادفنا دبلوماسيين لا يعرفون كيفية الجلوس أو متابعة حديث الدبلوماسيين الآخرين، أو حتى الوصول في الموعد المناسب للحفلة أو الاستقبال. وتحذر الدوائر الدبلوماسية من إفشاء أسرار الدول أمام الآخرين! خصوصاً الخدم والسائقين. تماماً عند الاتصال بالشخصيات المهمة. فلا ينبغي أن يتم ذلك عبر السكرتيرات أو المساعدين، ناهيك عن طريقة الجلوس في السيارة، أو عند استقبال الضيف، أو مراسم رفع علم الدولة. ومتى يطيل الجلوس ومتى يستأذن. ولابد للسفير أو الدبلوماسي عموماً -المرسَل للخارج- أن يحب البلد الذي يعيش فيه، وألا يطيل النقد لمؤسساته أو خدماته، فذلك يعطي انطباعاً سلبياً عن دوره في تمتين وتطوير العلاقات بين بلاده والبلد التي يمثلها فيها. إن البلدان تتفاوت في درجة التحضر أو التطور أو النماء. ولابد للدبلوماسي من أن يركز على الجوانب الاجتماعية التي تجعله محبوباً لدى الآخرين. وعليه أن يتعرف على المزايا والحصانات الدبلوماسية التي تنص عليها قوانين البلد المضيف من: القضاء المدني، إدلاء الشهادات في المحاكم، حرمة السفارة ومنزل السفير ومنتسبي السفارة من الدبلوماسيين، وكذلك الإعفاءات الضريبية والتفتيش الجمركي والرسوم. ولا يكتمل العمل الدبلوماسي إلا بممارسة "الإتيكيت". والدبلوماسي -مهما كان مدركاً لقواعد البروتوكول الدبلوماسي- لن ينجح في مهمته إذا لم يلم بفن "الإتيكيت". ويشمل ذلك تقديم الناس في الحفلات الرسمية والجلوس في المكان المخصص، وفن الحديث الدبلوماسي، وهذا مبحث كبير يعتمد على اللباقة في الحديث ومنها: حسن اختيار الموضوعات، وكسب ثقة السامعين بحسن التواضع ووضوح الصوت، وعدم التحمس في الدخول في حوارات تسبب حساسية للجالسين، مثل الجدل في الدين أو الجماعات الدينية، وكلمات الإطراء الجميلة التي لا تحمل صفة النفاق بل تعزز روح الود أو التعبير عن الامتنان، وبعض النساء في الحفلات الدبلوماسية يسألن: كم سعر الفستان الذي تلبسه زوجة السفير؟! إن هذا ليس من السلوك الدبلوماسي، أو الحديث عن زوجة سفير غير موجودة! ويحذر مختصو "الإتيكيت" من الرجل (المهذار) كثير الكلام أو القاطع لحديث الآخرين أو المنقض على جُمل الآخرين قبل نهايتها وإنهائها بصورة فجة رغبة في التميز! ناهيك عن الثرثرة والدخول في مواضيع لا تمت للحوار الدائر بصلة. ذلك أن فن الإنصات أفضل ألف مرة من تلك الثرثرة. ويتبع "الإتيكيت" فن الشكر سواء الشخصي أو عبر الرسائل، أو فن تقديم الهدايا! أما العشاء الرسمي فله بروتوكولات مهمة لعل أبرزها: نوعية ومكانة الضيوف، ومدى معرفته لبعضهم، ونوعية الطعام الملائم للضيوف، وعادات الضيوف الاجتماعية من حيث تناول بعض المشروبات والأطعمة. وترتيب الطاولة وطرق تقديم الأطباق وتنظيم الكؤوس والأكواب على الطاولة مع الشراشف والمناديل. وتنبيه الخدم إلى الانتباه عند تقديم الطعام. إن نجاح تقديم العشاء الرسمي يعتمد على حسن توزيع الضيوف وإن كانت هنالك شخصية مهمة يجب أن تكون في الصدارة. وبعد فإن فن الدبلوماسية و"الإتيكيت" من العوالم الفسيحة التي تفتح للمرء آفاقاً جديدة للوقوف على حقائق العالم، في الوقت الذي يطور الدبلوماسي علاقات بلاده مع البلد الموفد إليه، أو ينجز أعمالاً ناجحة في المؤسسات الدولية التي يعمل بها. وحسناً فعلت بعض الجامعات الأميركية والغربية التي افتتحت في بعض دول الخليج حيث طرحت برنامجاً للدبلوماسية للحصول على درجة الماجستير والدكتوراه، حيث يتمكن الدبلوماسيون في المنطقة من الالتحاق بذلك البرنامج دون عناء السفر أو التغرب أو الغياب عن العمل لفترات طويلة. كما أن بعض تلك البرامج معتمدة من جامعات مهمة مثل جامعة وستمنسر وفليتشر ببريطانيا، أو ماكسويل وكنساس وسيراكيوز بالولايات المتحدة. إن أي دبلوماسي يحتاج إلى مثل تلك البرامج التي تؤهله لأن يمثل بلاده خير تمثيل ليكون خير سفير لها عند الآخرين. كان سفير إحدى الدول الغربية يقول لي: تصور نحن قبل أن نأتي إلى الشرق الأوسط ندخل دورات تدريبية لمدة عامين نتقن خلالها اللغة العربية، وعادات العرب، وتاريخهم، ومزاجهم العام، واتجاهات السياسة العربية، وهوايات العرب.. وغيرها من الأمور، والذي لا يجتاز تلك الدورة لا يرسل إلى المنطقة.