حينما قادني "سوفات تشيترانوكروه" السفير التايلاندي لدى البحرين إلى جناح الدكتور "سوريت بيتسوان" الأمين العام لمنظمة أمم جنوب شرق آسيا (آسيان) في فندق "الريتز كارلتون" بالمنامة لإجراء حوار صحفي معه، وجدت نفسي أمام رجل لولا تقاسيم وجهه لما خلته تايلاندياً. فقامته المديدة وبنيته الجسمانية القوية وصوته الجهوري وانجليزيته الفصيحة غير المشبعة بلكنة شعوب جنوب شرق آسيا، كانت كلها توحي بوجودي في حضرة دبلوماسي استثنائي من خارج منطقة شرق آسيا. والرجل الذي حل ضيفاً على البحرين يومي الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من يناير الماضي، جاء خصيصاً للتباحث مع المسؤولين البحرينيين حول ترتيبات عقد أول اجتماع على مستوى وزراء الخارجية ما بين دول" آسيان" العشر ودول مجلس التعاون الخليجي الست (من المقرر أن تستضيفه المنامة في مايو المقبل) من بعد أن كان مثل هذا الاجتماع يعقد على نفس المستوى، لكن على هامش الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة. وهذا في حد ذاته أمر يعكس مدى التطور الذي وصلت إليه العلاقات البينية سواء ما بين دول جنوب شرق آسيا ودول الخليج أو ما بين التكتلين الخليجي والآسيوي، وهو ما أشاد به "بيتسوان" وعزاه إلى جملة من العوامل المتشابكة مثل: ظاهرة العولمة، والمتغيرات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، واكتشاف كل طرف لما عند الطرف الآخر من إمكانيات يمكن الاستفادة منها في رفد خطط التنمية المستدامة وتعزيز الأمن والاستقرار. في المقابلة التي كانت قصيرة بسبب ارتباط الضيف بجدول حافل من اللقاءات، فضل الأخير أن نتحدث بالإنجليزية رغم إجادته للغة العربية التي تعلمها في مصر يوم أن كان طالباً في الجامعة الأميركية بالقاهرة ضمن برامج الزمالة الأكاديمية الممنوحة من صندوق "روكفيلير" بالتعاون مع جامعة "هارفارد" العريقة. ولعل الشق الأخير من الجملة السابقة، معطوفاً على سنوات من الإقامة الطويلة في الولايات المتحدة الأميركية كطالب علوم سياسية في كلية "كليرمونت" في كاليفورنيا، ثم كباحث وطالب دكتوراه في كلية الآداب بجامعة هارفارد، ثم كمدرس للعلاقات الدولية في الجامعة الأميركية في واشنطن، يوضح أسباب تمكن الرجل من الإنجليزية ونطقها بسلاسة غير معهودة عند مواطنيه. على أن "بيتسوان" فوق هذا كله من الشخصيات التي وهبها الله ملكات متعددة، فحفرت اسمها في أكثر من حقل ومحفل على مدى أكثر من أربعة عقود. فهو سياسي من الطراز الأول، ومُشرّع ودبلوماسي وكاتب صحفي وأكاديمي ومستشار ونائب وزير ووزير، ناهيك عن أنه باحث في الشؤون الإسلامية بفضل تتلمذه على يد علماء معروفين في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر في منتصف السبعينيات. وهذه الأمور تحتاج كلها إلى المزيد من الشرح والتفصيل كما يلي: بعد عودته من الولايات المتحدة إلى تايلاند في عام 1982، نجح "بيتسوان" في الوصول إلى مقاعد البرلمان منتخباً عن دائرة "ناخون سي تامارات" في عام 1986، بل أهله هذا الفوز للمنافسة على منصب رئاسة مجلس النواب الذي حصل عليه بالفعل. وفي عام 1988 عينته الحكومة كمساعد لوزير الداخلية، وما بين عامي 1992و1995عين كمساعد لوزير الخارجية، وذلك قبل أن يتولى ما بين عامي 1997 و2001 منصب وزير الخارجية في حكومة رئيس الوزراء الأسبق "ليكباي"، الذي شهد عهده حدوث الأزمة النقدية الآسيوية (أزمة 1997). وما بين عامي 1999 و2000 تولى "بيتسوان" سكرتارية منظمة "آسيان" لأول مرة قبل أن يصادق زعماء "آسيان" خلال قمتهم بسنغافورة في نوفمبر 2007 على تعيينه مجدداً في هذا المنصب ولمدة خمس سنوات ابتداء من الأول من يناير 2008 خلفاً للسنغافوري "أونج كينج يونج ". أثناء أدائه لوظائفه السياسية والوزارية والتشريعية، حرص الرجل أن يقوم إلى جانب ذلك بالتدريس الأكاديمي، واختار لذلك جامعة من أشهر جامعات البلاد، وهي جامعة "تاماسات" التي تولى فيها أولًا عمادة كلية العلوم السياسية، ولاحقاً منصب نائب الرئيس للشؤون الأكاديمية، كما حرص على الكتابة اليومية في صحيفتي بانكوك الرئيسيتين (بانكوك بوست وذناشيون) ما بين عامي 1980 و1992. وحينما حل عام 1983 جاءت للرجل مرة أخرى فرصة العودة إلى الولايات المتحدة لقضاء عام كامل في أروقة الكونجرس الأميركي، فلم يتردد في قبولها طمعاً في تعزيز تجربته السياسية والعلمية. وكان من الطبيعي لشخصية متعددة المواهب والتجارب كهذه أن يمنح لاحقاً مناصب استشارية في العديد من المنظمات واللجان الدولية مثل المفوضية الدولية المختصة بسيادة الدول والمفوضية العالمية المختصة بالجوانب الاجتماعية للعولمة والمفوضية الدولية الخاصة بالأمن الإنساني. في لقائي مع "بيتسوان"، استوقفتني إشادته بتجربة البحرين التي وصفها بالمتميزة عن غيرها من التجارب في منطقة الخليج لأسباب تاريخية وجغرافية واجتماعية وثقافية عديدة، الأمر الذي دفع العديد من دول تكتل آسيان– حسب قوله - إلى المراهنة على هذه الجزيرة الصغيرة كبوابة لها نحو بقية دول المنطقة سواء لأغراض التصدير أو الاستثمار أو المشاريع المشتركة. كما استوقفتني إشارته إلى مجلس التعاون الخليجي كبوابة للأمل وكطريق للأجيال الخليجية القادمة نحو تحقيق أحلامها في السلام والتعايش والتعاون والازدهار، وهذا هو نفس ما طمحت إليه منظومة "آسيان" يوم أن تم تدشينها في الثامن من أغسطس عام 1967 من قبل وزراء خارجية الدول الخمس المؤسسة (إندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلاند وسنغافورة ). وفي اللقاء كانت هناك أشياء أخرى من قبيل الحديث عن مدى التعاون المتحقق ما بين كتلتي آسيان ومجلس التعاون في مجال مكافحة وباء العصر ألا وهو الإرهاب والتطرف الذي تعاني منه المنطقتان على حد سواء. وإزاء هذا الموضوع تحديدا طالت إجابة الرجل نظراً لمعرفته الدقيقة لأهداف الإرهابيين والمتشددين والمستترين باسم الإسلام "ممن يروجون لأشياء لم أتعلمها أثناء دراستي الإسلامية في مصر". كما كانت في اللقاء أشياء من قبيل لماذا ظل التعاون الخليجي– الآسيوي محصوراً دائماً في الشق الاقتصادي والتجاري دون الالتفاف بنفس الدرجة إلى التعاون العلمي والثقافي والأكاديمي والتربوي، وماهية الدور الذي يمكن لمنظومة "آسيان" أن تقوم به لجهة تطبيع العلاقات ما بين بانكوك والرياض وإزالة التعقيدات الموجودة بينهما منذ ثمانينات القرن المنصرم، وكيف أن منظومة "آسيان" صارت اليوم في مقام الأمم المتحدة، لكن بنسخة آسيوية بدليل إرسال بعض الدول لدبلوماسيين يمثلونها لدى المنظمة في مقرها الرئيسي بالعاصمة الاندونيسية (جاكرتا)، ومدى الإصلاح السياسي الذي تحقق في بورما بعد التحمس لقبول الأخيرة كعضو كامل في "آسيان"، أملاً في أن يؤدي ذلك إلى تشجيع حكام رانجون العسكريين على الانفتاح والأخذ بالخيار الديمقراطي وإيقاف مسلسل قمع واضطهاد شعوبهم. ويمكنني القول بثقة إن إجابات هذا الدبلوماسي المحنك اتصفت جميعها بالشفافية والجرأة والانفتاح، ولا سيما فيما يتعلق بالسؤال الأخير الذي رد عليه بالقول: "للأسف لم يتحقق أي شيء في هذا المجال، لأن دول المنظومة في علاقاتها مع النظام العسكري البورمي تحركها الأهداف المتضاربة والمصالح الخاصة، الأمر الذي يعيق قيامها بالضغوط القوية المطلوبة على نظام رانجون. د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشؤون الآسيوية من البحرين الايميل: elmadani@batelco.com.bh