عندما دخلت الولايات المتحدة إلى العراق عام 2003، كان لدى الأميركيين معرفة محدودة للغاية بهذا البلد، وهو ما يرجع إلى أن خبراءهم السياسيين، كانوا يميلون إلى اختزال العراق من خلال تصنيفات محددة وقاطعة: على أنه بلد يضم أغلبية شيعية مقهورة، وأقلية سُنية مرتبطة بنظام صدام حسين، ويضم أكراداً ليس لديهم مصلحة في البقاء ضمن العراق. وكان الصراع بين تلك المجتمعات التي يفترض أنها ضخمة يُصور في معظم الأحيان على أنه صراع دائم وعنيف. ومنذ عام2003 وحتى الآن، جرت مياه كثيرة تحت الجسور، حيث تبين أن المجتمع العراقي ليس مقسماً على ذلك النحو التبسيطي الذي تخيله الخبراء الأميركيون، وإنما هو مجتمع معقد ينقسم إلى طبقات من الهويات، ويتسم بتنوع للمصالح والولاءات التي تمر جميعها في حالة حراك تغييري، في الوقت الذي يحاول فيه البلد برمته إنجاز انتقال جوهري ـ وإن يكن غير منظم ـ انطلاقاً من الديكتاتورية المطلقة، عبر الاحتلال والعنف، وانتهاء ببدايات الديمقراطية البرلمانية العاملة. ومغزى الانتخابات المحلية الأخيرة التي جرت في العراق، يجب فهمها ضمن سياق هذا التغيير والانتقال. فهذه الانتخابات لم تظهر فقط شعبية الفاعلين السياسيين المختلفين وقوتهم النسبية - وإن كان هذا مهما في حد ذاته ويجب أن يخضع للدراسة المتفحصة -وإنما أظهرت أيضاً أن القوى التي رفضت قبول النظام الجديد في بداية الأمر، وانخرطت في تيار العنف بغية إلحاق الهزيمة به من خلال زرع الفوضى، وجعل البلد غير قابل للسيطرة والحكم، قد أدركت في نهاية المطاف أنها قد خسرت الكثير جراء هذا الموقف، وأن اللعبة السياسية هي اللعبة الوحيدة في الساحة، وأن من مصلحتهم المشاركة فيها من خلال القواعد الجديدة. أثبتت تلك الانتخابات أيضاً أن هؤلاء الذين تدفقوا على العراق من كل حدب وصوب لهزيمة الولايات المتحدة من خلال الإرهاب، والذين وجدوا دعماً من"الرافضين" في بداية المطاف، قد وجدوا أنفسهم في النهاية مرفوضين من قبل الشعب العراقي برمته بعد أن حاولوا إشعال نار الحرب الأهلية بين طوائفه وفشلوا في ذلك. وعلى الرغم من أنهم لا يزالون يمثلون تهديدا للأمن في العراق، فالحقيقة هي أن الإسلاميين المتطرفين قد تلقوا هزيمة شاملة واستراتيجية في دولة مسلمة، وهو ما يمثل في حد ذاته تطوراً ذا مغزى عميق الدلالة. أثبتت تلك الانتخابات كذلك إن العناصر التي ظنت أنها قادرة على الهيمنة على العراق، من خلال نوع جديد من الديكتاتورية المزينة بزخارف ديمقراطية، قد اكتشفت أخيراً أنها مجبرة على القبول بمبادئ اقتسام السلطة في العراق. فضلاً عن ذلك، أثبتت الانتخابات خطأ هؤلاء الذين زعموا أن العراقيين لا يستطيعون استيعاب الديمقراطية، ولا الالتزام بقواعدها. حيث شاهد العالم على الهواء مباشرة العراقيين العاديين، وهم يتوجهون بالملايين إلى مراكز الاقتراع في جميع أنحاء البلاد، ويعرضون بفخر سباباتهم المصطبغة بالحبر الإرجواني أمام كاميرات الإعلام، معبرين عن رغبتهم في اختيار قادتهم، الذين أظهروا هم أيضاً قدرتهم على عمل المواءمات والتسويات اللازمة. ليس معنى هذا القول إن العراق قد وصل تماماً ونهائياً إلى صيغة كاملة من الديمقراطية، فالحقيقة أنه بعيد عن ذلك، إذ لا يزال مجابهاً بتحديات جسام خارجية وداخلية، ولكنه يعني بالتأكيد أن العراق، وبعد أن تمكن من هزيمة المتطرفين والإرهابيين بين شعبه، وأظهر نفوره من الطائفية، وإرادته على البقاء موحداً، قد أصبح مهيئاً لتكريس كل ما تمكن من إنجازه بالفعل بمساعدة كبيرة من جانب الولايات المتحدة وآخرين. لقد أظهر العراقيون في هذا المنعطف الحاسم من المرحلة الانتقالية، استقلالهم ووحدتهم مما منحهم المزيد من الثقة بالنفس في مستقبلهم. أما هؤلاء الذين اعتقدوا أنهم قادرون على السيطرة على العراق من الخارج سواء مباشرة، أو من خلال وكيل في الداخل، فإن الأمر المؤكد أنهم قد أدركوا أن نفوذهم سيظل محدوداً على الدوام. وإذا ما نظرنا إلى المستقبل، يمكننا القول إن السرعة التي يمكن بها سحب القوات الأميركية من العراق، يجب أن تتحدد بشكل دقيق من خلال الاستشارات المشتركة بين القادة السياسيين والعسكريين في البلدين على أن يتم ذلك في إطار "اتفاقية وضع القوات" الموقعة بينهم في الآونة الأخيرة. إن انخراط الولايات المتحدة المستمر في العراق سيكون أمراً حيوياً من أجل ضمان أن ما تم إنجازه لن يكون معرضاً للخطر، وإن كان من الحتمي في هذا السياق أن تنتقل بؤرة التركيز الأميركي من المسائل العسكرية إلى المسائل الاقتصادية والدبلوماسية. إن دولتينا لهما مصلحة مشتركة في مستقبل العراق. فنجاح العراق سوف يمثل بالتأكيد نجاحاً بارزاً للسياسة الخارجية الأميركية. كذلك فإنه إذا ما نجح العراق، فسوف يكون لديه الإمكانية كي يصبح واحداً من أهم أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة. وهذا في حد ذاته سيمثل بداية لعهد جديد في علاقتنا. عهد يفتح الطريق أمام شراكة مزدهرة في المجالات الاقتصادية، والثقافية، والسياسية، والدبلوماسية، ويبشر بالخير للمستقبل برمته. سمير الصميدعي سفير العراق لدى الولايات المتحدة ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"