لم يتوقف أحد ليسأل عن دور أجهزة المخابرات الإسرائيلية الداخلية والخارجية في المذابح العربية، خاصة دورها في ترويض وسائل الإعلام ومراكز صنع واتخاذ القرار الأجنبية لتقبل ما تقوم به إسرائيل سياسياً وعسكرياً، بل إن أحداً لم يحاول فهم طبيعة وأبعاد دور "الموساد" في خدمة المحارق التي يقيمها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد العرب عامة والفلسطينيين خاصة. وربما نكون قد انشغلنا بمصالحنا وصراعنا على السلطة ومعارك فرض الإرادات، وتنافسنا على تخوين بعضنا بعضاً، ولكن غيرنا، وهم كثيرون، تنبهوا لما يفعله "الموساد" الإسرائيلي في خدمة ذبح العرب، إلا أنهم لم يتوصلوا للهدف أو الأهداف التي يسعى "الموساد" لتحقيقها من خلال هذه الخدمة. لقد نشرت صحيفة "سهارا أُردو" اليومية الصادرة يوم 3 أغسطس 2007، في مومباي ونيودلهي ولكناو وجوراخبور وكلكتا وبانتا، مقالاً بعنوان: "هل كانت يد الموساد وراء تفجيرات قطارات مومباي؟"، جاء فيه أن الموساد قد يكون هو الجهة المنظمة لتفجيرات قطارات مومباي عام 2006، فعقب التفجيرات مباشرة، قامت الجهة الراعية لمعبد "ساي بابا ماندير" بتكليف الموساد بالقيام بمهمة توفير الأمن للمعبد الديني الشهير. وأوضحت الصحيفة أن السلطات في مومباي لم تؤكد حتى الآن السبب الذي جعل الجهة الراعية لمعبد "ساي بابا ماندير" تستعين بوكالة استخبارات أجنبية لحماية المعبد، أو سبب موافقة حكومة ماهاراشترا على التعاقد مع "الموساد" للقيام بهذه المهمة. وأضاف تقرير مكتب "سهارا" للأنباء، الوارد على صدر الصفحة الأولى من صحيفة "سهارا أُردو"، أن "بعض الخبراء الأمنيين تساءلوا عما إذا كانت السلطات استعانت بالموساد، وسمحت له بالعمل في ولاية ماهاراشترا بحجة توفير الأمن للمعابد الهندوسية، على اعتبار أن هذا يعني تزايد احتمالات تدهور الأوضاع الأمنية تدهوراً خطيراً، ليس فقط في ماهاراشترا، بل في كل أرجاء الهند". ونقلت الصحيفة عن ضابط شرطة كبير متقاعد رفض ذكر اسمه، في تعليق له على أخبار الاستعانة بـ"الموساد" لتوفير الأمن لمعبد ساي بابا ماندير: "لكي يدخل الموساد ولاية ماهاراشترا، فمن المؤكد أن يكون الموساد نفسه قد قام بتنظيم تفجيرات قطارات مومباي في 11 يوليو 2006، بطريقة تجعل كل اللوم يقع على منظمة الطلاب المسلمين في الهند المحظورة"، والمنظمات الإسلامية الأخرى. وإذا انتقلنا لما كتبه الكاتب الهندي أماريش مِسرِا، الذي يعمل مؤرخاً وصحفياً، ومن أحدث مؤلفاته كتاب بعنوان "حرب الحضارات: الهند 1857"، صدر في مارس 2008، نجد أنه نشر مقالا في الصحيفة نفسها بعنوان: "علاقة الموساد بهجمات مومباي الإرهابية"، في 29 نوفمبر 2008، جاء فيه: "لقد قتلوا هيرمات كاركاري، قائد شرطة مكافحة الإرهاب في مومباي وضباطاً آخرين من شرطة مكافحة الإرهاب، ليبعثوا برسالة مفادها أن لا أحد يستطيع التحقيق في علاقة الموساد والمنظمة الهندوسية القومية (راشتريا سوايامسيفاك سانغ) بالهجمات". وأشار الكاتب إلى أنه من الواضح أن "الموساد" متورط في العملية برمتها التي جرت يوم 27 نوفمبر 2008، فقد تعرضت مدينة بأكملها للهجوم من "الموساد"، وربما وحدات من المرتزقة، هذه العملية المعقدة لا يمكن أن تخطط لها وتنفذها منظمة واحدة بمفردها". ويعود الكاتب ليُذكِّر بأن "المنظمة القومية الهندوسية وإسرائيل متورطتان، ليس فقط في زعزعة استقرار الهند، بل في القضاء عليها"، ويطالب الهند بضرورة قطع كل علاقاتها مع إسرائيل فوراً، "فنحن مدينون بهذا لكاركاري ورجال شرطة مكافحة الإرهاب البواسل الذين أظهروا شجاعتهم باعتقال براجيا سينغ وراج كومار بوروهيت وضابط القوات المسلحة وآخرين". وقد نشرت صحيفة "أُردو تايمز"، صوراً تُظهر بوضوح أن رجالاً من "الموساد"، حاليين وسابقين، قد زاروا الهند مؤخراً والتقوا مع ساندهوس وبعض العناصر الأخرى الموالية لحركة "هندوتفا" الهندوسية القومية، ولا يجدون أدنى شك في أن هناك مؤامرة قد دُبِّرت. ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار ما نشرته الصحافة الهندية خلال عامي 2007 و2008 حول تورط جهاز "الموساد" في أحداث بومباي وما نتج عنها من خسائر مادية وخسائر في الأرواح، وأن نضع في الاعتبار أيضاً أن الحدث الأول جرى يوم 11 يوليو 2006، أي قبل يوم واحد من الحرب الإسرائيلية على "حزب الله" في جنوب لبنان، ثم جاءت أحداث بومباي الثانية يوم 27 نوفمبر 2008، وبعد شهر نفذت إسرائيل محرقة غزة، وسط استخدام مفرط للقوة العسكرية وكأنها وحش مفترس أُطلق من عنانه ليقضي على كل شيء حي ولا يترك على الأرض أثراً لحياة. والسؤال المطروح هنا ذو شقين، الأول هو: لماذا كان لـ"الموساد" يد في العمليات الإرهابية في بومباي، وما هو العائد على إسرائيل منه؟ والشق الثاني من السؤال هو: ما علاقة عمليات بومباي بما جرى على أرض لبنان وفلسطين؟ الإجابة عن هذين السؤالين تقودنا مباشرة إلى "المصلحة الحيوية للموساد"، والتي تجعله يتورط في تنشيط العمليات الإرهابية في بومباي، وبالطبع لن تكون الإجابة هي إيجاد موطئ قدم لعملائه لتأمين المعابد الهندوسية، لأننا في هذه الحالة نسير وراء التفسير الهندي، ومع ثم تختفي النظرة الكبرى للأحداث وإدراك ما تخفيه من علاقة مع ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط. تتركز أهداف "الموساد" من عملياته في بومباي في الآتي: * التذكير بمدى عنف وقسوة "الإرهاب الإسلامي" في العالم، خاصة خارج الولايات المتحدة، وما ينتج عنه من خسائر مادية وبشرية تفرض على الحكومات المعنية اتخاذ إجراءات أكثر قسوة ضد القائمين به، ومن ثم يصبح ما تقوم به إسرائيل ضد كل من "حزب الله" في لبنان وحركة "حماس" في فلسطين مقبولاً من وسائل الإعلام العالمية لأنه يندرج تحت إطار "الدفاع عن النفس" ضد الإرهاب الإسلامي الشيعي والسني. * دفع متخذي القرار في الدول الكبرى إلى قبول العمل العسكري الإسرائيلي أياً كانت قوته ومداه لأنه ضد الإرهابيين، بعبارة أخرى ترويض أجهزة صنع واتخاذ القرار في الدول المؤثرة في النظام الدولي لتتعاطف مع ما تقوم به الآلة العسكرية الإسرائيلية. * تهيئة الرأي العام العالمي لما تقوم به إسرائيل بزعم دفاعها عن نفسها ضد ما يسمى الإرهاب، ومن ثم تتساوى الخسائر البشرية والدمار المادي الذي يقوم به الإرهابيون مع الفعل نفسه الذي تقوم به إسرائيل، وإن كان أشد قسوة وعنفاً. وهنا نتذكر التصفيق الحاد الذي حظي به الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في منتدى دافوس الأخير عندما برَّر محرقة غزة بأنها دفاع عن المواطن الإسرائيلي. * تهيئة المجتمع الإسرائيلي لتقبُّل الخسائر المحدودة في قواته، في سبيل مواجهة الإرهابيين، وفي الوقت نفسه إعداد الجندي الإسرائيلي لفقد إنسانيته وآدميته وسفك الدماء بكل وحشية بعد أن رأى بعينيه نتاج العمليات الإرهابية في أماكن أخرى من العالم، وعلمه بما سيصيب الإسرائيليين لو تعرضوا لمثل هذا النوع من العمليات. لم يحاول "الموساد" الرد على ما جاء في الصحف الهندية، ربما لأنه يصب في صالح فكرة تفوُّق عملاء "الموساد" وأنهم قادرون على فعل أي شيء وفي أي مكان من العالم، ومن ثم تستمر سمعة "الموساد" كأقوى جهاز استخبارات في العالم، أو ربما يؤدي الرد إلى كشف حجم الوجود المخابراتي الإسرائيلي في الهند، أو لأن ما حدث هو الحقيقة وأي دفاع عنها سيزيد من التناول الإعلامي ويفضح دور "الموساد" في الهند. وبعيداً عن نظرية المؤامرة وما يدور حولها من جعلها شماعة لأخطاء العرب، نجد أن ما حدث يحمل الكثير من المعاني ويحتاج إلى دراسة متأنية حتى نفهم عدونا واستراتيجياته وخططه، وبذلك نقطع أكثر من ثلثي الطريق نحو مواجهته.