رغم حقيقة أن المؤتمر السنوي لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبوظبي، قد ركز في ندوته السنوية الأخيرة على الموارد البشرية والتنمية في الخليج، فإن المشاركين في المؤتمر طرحوا أفكاراً جديدة تذهب بعيداً عن العمالة والتنمية إلى صلب إشكالية التنمية في الخليج، وهل يمكن تحقيق تنمية جديدة في مجتمع قديم؟ بمعنى، هل لدينا حركة مجتمعية قادرة على التكييف والتغير بعد أكثر من 60 عاماً على اكتشاف النفط واستغلاله؟ لا شك أن المجتمعات والقيادات السياسية في الخليج لديهم رؤية واضحة لما يريدون، لكن هل يريدون الاستمرار في مفاهيم الدولة القديمة بكل موروثها التقليدي من قيم وعادات وتقاليد، أم يريدون قيام دولة حديثة عمادها الدستور والمجتمع المدني تواكب روح العصر؟ لقد تصورنا (في الخليج) مخطئين، بأن مشكلة السكان والعمالة طوال الخمسين سنة الماضية، يمكن حلها بالتركيز على التعليم وانتهاج سياسة الإحلال حيث يتسلم المواطنون مسؤولية إدارة بلدهم من جيوش الأجانب الذين يشكلون الأغلبية السكانية وسوق العمل. لقد غاب عن بالنا أن التوسع الاقتصادي السريع في بلداننا بعد اكتشاف النفط، كان أسرع كثيراً من التطور السياسي والمجتمعي. فتوسُّع الاقتصاد خلق فرصاً اقتصادية ووظائف لم يستطع المواطنون في دول المجلس سدّها.. لذلك استعنا واعتمدنا على العمالة الأجنبية، وهذا أمر طبيعي وعادي... لكن المشكلة تكمن في إفراطنا في الاعتماد على الغير إلى درجة أن الآخرين باتوا يشكلون عبئاً علينا، ويعود سبب هذه الإشكالية إلى حقيقة إصرارنا على إقامة اقتصاد متين له علاقة بالخارج في مجتمع تقليدي لا تزال تحركاته وتحولاته الاجتماعية والسياسية بطيئة جداً. الانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث أمر صعب جداً، لأنه يتطلب فترة طويلة من الانتقال التدريجي السلمي بالمجتمع، فالتجربة الأوروبية الرائدة في مجال الحداثة استغرقت أكثر من 400 عام، من القرن السادس عشر، الثورة الصناعية -حركة التنوير- التحولات العسكرية- حتى القرن العشرين... التجربة الوحيدة السريعة في التحول هي التجربة السوفييتية، حيث استطاع الثوار الشيوعيون عام 1917 نقل المجتمع الروسي من مجتمع زراعي متخلف إلى مجتمع صناعي في فترة قصيرة لا تتعدى أربعين عاماً... عندما أطلق السوفييت القمر الاصطناعي عام 1957، وبذلك ضيقوا الفجوة العلمية بينهم وبين الغرب، لكن هذه التجربة السوفييتية صعبة جداً ومذلة ومكلفة جداً، فقد فقد الشعب الروسي أكثر من 20 مليون شخص إبان الحرب ضد الألمان، كما فقدوا حرياتهم وصودرت حقوقهم الإنسانية، حتى انهار النظام السوفييتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي. نعود إلى بلداننا الخليجية التقليدية التي تحاول أن تدير اقتصاداً قوياً بدون أن يكون لديها أبسط الأسس الاقتصادية للانتقال، وهي الحرية الاقتصادية والسياسية -موارد بشرية قوية- سوق كبير واعد... بكلمة أخرى كيف لنا أن ندير عاشر اقتصاد في العالم يقدر دخله بتريليون دولار بعدد سكان بسيط لا يتجاوز 22 مليون نسمة، يعتمد اعتماداً كبيراً في تقدمه على العمالة الأجنبية..؟ الاقتصاد الحديث يتطلب عقليات جديدة وأفكاراً مبتكرة وخلاقة.. ولا يتطلب مجتمعاً لا يزال يفاخر بأمجاده القبلية السابقة ودولا حائرة تريد دخول القرن الحادي والعشرين بالتمسك بالقيم التقليدية وتطمح إلى إقامة دولة حديثة... نحن في الخليج أمام خيارين وهما إيجاد بديل عن النفط كمصدر للدخل أو العمل بسرعة فائقة للاستفادة من مواردنا الكبيرة في خلق مجتمع حديث قادر على التكيف مع العالم.