الآن وقد انقشع الغبار عن دورة كأس الخليج في نسختها التاسعة عشرة، وبالنظر إلى ما صاحب فعالياتها من أحداث بعيدة عن أهداف الدورة، نعتقد أنه من الواجب على المسؤولين في الدول المشاركة فيها، الوقوف ملياً أمام العديد من الممارسات الجماهيرية والتصريحات والمواقف وتحليلها ودراستها ملياً لاستخلاص النتائج والعبر، ومن ثم التقرير فيما إذا كان استمرار عقد الدورة في نُسَخ قادمة أمر في صالح دول شعوب المنطقة على مدى المستقبل، أم أن ما حدث من شغب وغوغائية انتزع من أهداف عقد الدورة مبرراتها، وقد يفضي في المستقبل إلى ما لا تحمد عقباه. الأهداف السياسية لإقامة المباريات الرياضية بين شعوب الأرض المختلفة واضحة وجلية، أهمها التقريب بين تلك الشعوب والتعارف بينها، وفي كثير من الأحيان يرتب أمر إقامة المباريات الرياضية كمقدمة أو تمهيد لخطوات أخرى على الصعيد السياسي أولاً، ثم تبادل المصالح الأخرى بكافة جوانبها. في مسيرة الحركة الرياضية منذ أيام الإغريق والرومان واللقاءات الأولمبية التي عقدت في أيامهم، كان الهدف من ورائها التنافس على أرض الملاعب نبيلاً وسامياً، ولم نسمع أن مباراة دولية أُقيمت أو دورة عقدت أو تنافساً رياضياً تم ترتيبه بهدف إذكاء التشاحن والبغضاء والكراهية بين الفرق المتبارية، ومن ثم بين الشعوب التي تنتمي إليها. دورة الخليج الأولى عندما عقدت في البحرين عام 1970 كانت لها أهداف سامية ومآرب نبيلة، إن لم تكن مشابهة لكل ما يعقد من مباريات ولقاءات وتحديات رياضية على مدار العالم وبين كافة شعوب الأرض، فإنها تفوقها مرات عديدة، فقد عقدت لأول مرة والمنطقة كانت على وشك التخلص من آخر اتفاقيات الحماية البريطانية. ودول مجلس التعاون الخليجي الست بالتحديد، كانت ستواجه عالماً خارجياً مملوءاً بالأطماع والمشاكل السياسية، فكانت في أمسّ الحاجة إلى أن تتقارب مع بعضها بعضاً كدول، وأن تقرب بين مواطنيها كشعوب، فكان أن اقترحت البحرين عقد الدورة، واستجاب الآخرون برحابة صدر لإيمانهم بأن في ذلك خير للجميع. في نسختها التاسعة عشرة، وبعد أن أصبحت الدورة تقليداً حميداً يترقبه مواطنو دول المنطقة بشغف وصبر وأناة، خاصة جيلنا نحن الذي شهد البدايات الأولى لانطلاقتها، وراقب تطورها ولمس بشكل مباشر فوائدها في التقريب بيننا كإخوة متحابين ننتظر اللحظة التي يحين فيها موعد عقد الدورة، لكي نلتقي ونتفاعل ونشهد لقاءات فرق دولنا وتنافسها الشريف، ويؤيد كل منا فريق بلاده بحماسة منقطعة النظير، ولكن دون أن نتعدى حدود التشجيع البريء النابع من حب كل مواطن منا لبلاده والفريق الذي يمثلها، ودون أن نتشاحن ببغض. أي كنا، نتناقش ونتجادل ويبين كل منا مزايا فريق بلاده وقوته ومهارة لاعبيه، وأننا الفريق الذي سيفوز، ولكن دون أن يفسد كل ذلك للودّ قضية. ولا تستغرب أيها القارئ إذا ذكر لكم أنني حضرت الدورات الست الأولى جميعها، رغم أن فريق دولة الإمارات الرسمي لم يشارك منذ البداية، وكنت حينها أشجع فريق الكويت بحكم الإقامة الطويلة فيها والارتباط الوثيق بإخوتي هناك. على أي حال، الدخول في تفاصيل ما حدث في الدورة الأخيرة ليس من شأني، ولكن ما أردت التنبيه إليه، هو أنه يوجد خيط رفيع جداً يفصل بين الأهداف السامية والنبيلة التي تعقد اللقاءات الرياضية لتحقيقها وبين ما قد تؤدي إليه ممارسات البعض من كوارث سياسية ترتبط بالرياضة. أولئك ليسوا فئة واحدة بل هم مجموعة فئات، البعض منهم يعمل في وسائل الإعلام ويستغل موقعه الخطير هذا لكي يبذر بذرة الشر عن طريق النفخ الزائد في قضايا من نسج خياله، لكي تطغى على الأهداف الأساسية لعقد اللقاءات الرياضية، والآخرون في مواقع المسؤولية الرسمية ويريدون تحقيق نجاحات وظيفية لأغراض تعود على أشخاصهم بالنفع لو فازت فرق بلدانهم، والفريق الثالث يدك خشب المدرجات وتخرج عنه سلوكيات وألفاظ تدمى لها الأوجان وهلم جرا. ندائي إلى مواطني ومسؤولي الرياضة في الدول الثماني المشاركة أينما كانت مواقعهم، سواء في الملعب أو المسؤولية الرسمية أو المدرجات أو وسائل الإعلام، أو حتى رجال الشرطة، هو الانتباه جيداً لما قد يأتي من خطر من النفخ الزائد في فعاليات دورة الخليج لكرة القدم؛ لأن ذلك قد يولد كارثة لا نريد لها، لا حكومات ولا دول ولا شعوب أن تحدث. إن مهمتنا هي منع حدوث ذلك وبأي ثمن.