هل يعاني العالم العربي من قصر نظر نحو بناء المستقبل؟ أو حتى تصور ذلك المستقبل؟ وهل أصبحنا بالفعل أسرى للماضي، وغير قادرين على الانفكاك من ربقة التاريخ؟ كل هذه الأسئلة تراءت لي وأنا أنظر في الواقع العربي، أو حتى أحضر محاضرة عابرة لضيف زائر. كيف نعاني من عدم تصور القدرة على بناء المستقبل، ربما كانت الإشكالية الرئيسية لدى معظم العرب هي عدم القدرة على هذا التصور، ناهيك عن وضع الخطط أو الاستراتيجيات، أو تبني الآليات التي توصلنا إليه. وأنا لا أنظر إلى الموضوع من ناحية بيروقراطية أو إدارية، بل أنظر إليه من ناحية سياسية بحتة. فتصوّر المستقبل يحتاج إلى فكر فلسفي يدرس فلسفة الماضي ويتعمق فيه، ومن ثم يجنح إلى بناء صور زاهية للمستقبل، والنظر في التصورات التي توصلنا إلى تحقيق تلك الصور، ويخيّل إليّ أن دراسة الفلسفة تعطي المرء شيئاً من حرية التفكير، وتطلق العنان لذهنه أن يتأمل، لا بل أن يتمنى، وأن يرحل إلى عالم الجماليات من أوسع أبوابه. فإذا كانت الموسيقى مدخلاً إلى علم الجمال والاستمتاع بدينامية الحياة، وتعطي مساحة هائلة للروح أن تعشق اللحن والصوت والأغنية، فإن الفلسفة تعطي متعة هائلة للعقل أن يبحر في المعطيات والشروط والفرضيات، وأن يربطها ببعضها بعضاً بشكل منطقي يقودنا إلى النتائج. أشار زميل لي، هو د. عبدالله العسكر في مقال له قبل فترة وجيزة، إلى إشكالية عدم وجود مناهج لدراسة الفلسفة في بعض الجامعات العربية، وحتى إن وجدت فهي مهمشة في مساحات ضيقة، لا تسمح للطالب بأن يبحر في بحورها، أو أن يغوص في أعماقها. والكاتب ليس أستاذاً للفلسفة، بل هو أستاذ للتاريخ، وليست في رؤيته للفلسفة وأهميتها في الجامعات العربية أي مصلحة شخصية، بل هو يدفع إلى بناء ذهن الطالب الجامعي، بحيث يستطيع أن يخرج من الصندوق، كما يقال، أو من "القمقم"، حتى يمكن له النظر إلى الأمور بنظرة ناقدة وعميقة. ولعل سر اهتمامنا بالتاريخ لا يجعلنا نستمد منه العبر بقدر استمدادنا منه للقدرية في تفكيرنا، مما يجعلنا غير قادرين على تغيير واقعنا، أو تغيير نظرتنا المستقبلية وإعادة خلقها وتشكيلها برغبتنا نحن، وليس كرد فعل لرغبة الآخرين ومشيئتهم. وربما كان عدم اهتمامنا بالناحية الفلسفية هو تركيزنا على الجماعة، وعدم الاهتمام بالفرد ومصلحته ومستقبله. وهذه النظرة مع ما فيها من إثرة للآخرين، إلا أنها قد لا تفهم أو تستوعب مصلحة الجماعة، أو لا تستطيع وضعها في صورتها الحقيقية، أو الصحيحة. أما نظرة المجتمعات والحضارات الأخرى، فمؤداها أن الأفراد والجماعات والمؤسسات السياسية هي التي تصنع المستقبل وتشكله، فيما ونظرتنا في الغالب هي انتظار ما يصنعه الآخرون، حتى يمكن تقييمه والتفاعل معه. والحقيقة أن المستقبل لا يصنع نفسه، بل يصنعه الناس أفراداً وجماعات. وحين تنظر إلى المستقبل وتتصوره، يمكن لك وضع الخطط المناسبة والآليات التي توصلك إليه. ويمكن أن تتبنى هذه الخطط والآليات وتقنع الآخرين بها، لا بل أن تعمل من أجلها، وتحصل على القدر الكافي من النفوذ أو القوة من أجل تحقيق تلك الأهداف. في معظم الثقافات، ينظر الناس إلى المستقبل، وحتى لو كان ذلك المستقبل قاتماً، فإنهم يحاولون تغييره. بينما في ثقافتنا العربية ننظر إلى الماضي، ونجتر التاريخ ولا يمكن لنا تصور المستقبل، أو التفكير فيه، ناهيك عن التفاعل معه. وما ينطبق على البعد التعليمي في تهميش الفلسفة وعلم الجمال وفنونه، يمكن أن ينطبق على الأحزاب السياسية في الوطن العربي. فهذه الأحزاب تريد الوصول إلى السلطة عبر آليات القوة والعنف. فبينما كانت الانقلابات العسكرية هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى السلطة في الماضي، بات العنف والأعمال الإرهابية في بعض الأحيان وسائل لتبوؤ تلك السلطة. وحين تصل هذه الأحزاب أو الجماعات السياسية إلى السلطة، فإنها لا تستطيع التصرف بشكل منطقي حكيم، لأنها أصبحت أسيرة لمنطق القوة، وغير قادرة على إدارة السلطة، بحكمة وعقلانية، وتفاعل حضاري مع المحكومين. لذلك فإن هذه المشكلة ليست محصورة على السلطات الحاكمة، بل هي إشكالية لأحزاب المعارضة في معظم البلدان العربية، فقد أصبح الجميع أسرى لثقافة القوة والعنفوان؛ لأنهم لا يؤمنون بقيمة الفرد وقدرته على التغيير. وأصبح التغيير في كينونته تغييراً بالقوة، وليس تغييراً سلمياً، تتداول فيه السلطة بين الأيدي والأحزاب الجديرة بممارستها، في فترة معينة محدودة. ومن ناحية جزئية، فحين تسبر غياب النظرة إلى المستقبل وتصوره، وأنت في ندوة صغيرة محدودة، فإنك ترى أن معظم أسئلة الحاضرين وطروحاتهم تنصب على الماضي وإشكالاته، وتغوص في تقسيمه وتجزئته إلى أقسام وأجزاء متعددة (على طريقة أفلاطون)، ومثل هذا الانغماس الشامل، يحرم أولئك الأفراد وأفئدتهم من النظر إلى المستقبل وتصوره، ويبقى الآخرون يتطلعون أو ينتظرون منا أن نساهم بشكل أو بآخر في إيجاد حلول لمشاكلنا نحن، ناهيك عن مشاكلهم، ويبقى هذا العجز الفكري عائقاً حقيقياً عن المساهمة في إيجاد حلول منطقية ومعقولة لإشكالات عميقة ذات صلة بمسائل الحرب والسلام في منطقتنا العربية. لنبدأ بالتعليم ولنحرر أفئدة الصغار مما يكبحها عن الانطلاق والتحليق في مجالات الإبداع المختلفة، وحينها فقط سنكون قادرين على تصور المستقبل وتشكيله.