تنعم منطقة البحيرات العظمى في وسط القارة الأفريقية، بالكثير من الموارد الطبيعية الثمينة، والمسطحات المائية الهائلة، فضلاً عن مناخها المعتدل نسبياً في معظم شهور السنة. غير أن المنطقة نفسها ظلت مسرحاً لأكثر مشاهد التاريخ الحديث دموية وعنفاً. وكان عدد من دول المنطقة، مثل رواندا وبورندي والكونجو كنشاسا، تحت هيمنة الاستعمار البلجيكي، لتعقبها مرحلة التحرر الوطني مصحوبة ومتبوعة بعقود طويلة من الحروب الأهلية التي اتسع نطاقها ليشمل الدول المجاورة لمنطقة البحيرات العظمى. وما أن تطورت تلك النزاعات إلى أبشع مراحلها وأشدها دموية وعنفاً، متمثلة في حملات الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا عام 1994، حتى ألقي باللوم كله على الفوارق العرقية والتركة الاستعمارية. لكن وبالنظر إلى جملة المخاطر الجدية التي تواجهها المنطقة، لم يعد ممكناً قبول هذه التبريرات التبسيطية، ولا الفهم المسطح لطبيعة النزاعات التي تشهدها المنطقة. وهذا ما حفز المؤلف على التعمق أكثر في فهم دورة الأزمة واستقصاء جذورها ومسبباتها. وبتأمله للخلفيات والعوامل التاريخية والاجتماعية التي تقف وراء دورات العنف والمذابح المتكررة التي تشهدها كل من رواندا وبورندي والكونجو كنشاسا، استطاع المؤلف دحض الكثير من المسلمات والأفكار الجاهزة، عن جذور النزاعات والحروب الأهلية التي ضربت تلك المستعمرات البلجيكية السابقة. وبتعمقه في فهم العوامل المسببة لهذه الأزمة، استطاع المؤلف الكشف عن الكيفية التي تحولت بها منطقة البحيرات العظمى، إلى إحدى أكثر مناطق القارة عنفاً ودموية واضطراباً. يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب رئيسية تفرع فيها النقاش إلى عدة فصول جانبية. يتناول الباب الأول، الإطار الإقليمي لمنطقة البحيرات العظمى ووسط أفريقيا، مع تركيز خاص على التركيب الجيوبوليتيكي للمنطقة. ويناقش الفصل الثاني من الباب نفسه، الكيفية التي انحدرت بها دول المنطقة إلى جحيم النزاعات والحروب. أما الباب الثاني فخصص لشرح وتفسير دورة حملات الإبادة الجماعية في كل من رواندا وبورندي، باعتبارهما توأماً للإبادة الجماعية على حد تعبير الكاتب. ويتناول الباب الثالث والأخير، كيفية تحول جمهورية الكونجو الديمقراطية من دولة فاشلة، إلى دولة ضعيفة مخلخلة. يقول الكاتب إن لهذه المنطقة الاستراتيجية الواقعة في قلب القارة الأفريقية أهمية حيوية، بسبب حدودها الشاسعة مع عدة دول مجاورة، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار اتساع دائرة عنفها وتمددها إلى الدول المجاورة. وهي على قدر كبير من الأهمية بسبب الإغراء الاقتصادي الكبير الذي تمثله الموارد التعدينية الضخمة التي تتمتع بها جمهورية الكونجو. وتمثل هذه الموارد الغنية سلاحاً ذا حدين، إما لصالح التقدم والتنمية الاقتصادية وتوطيد السلام، أو أنه أداة لتأجيج نيران العنف والصراع حول الثروة والسلطة. فبينما تتمتع الكونجو بأغنى موارد القارة الأفريقية من النحاس والكوبالت والماس والذهب، فإنه ليس من قبيل الصدفة أن نعتها المستعمرون البلجيك بـ"العار الجيولوجي". والسبب وراء هذا النعت أن ما يزيد على 60? من مواطنيها يعيشون تحت حد الفقر. يذكر أن ردة الفعل العرقية على حملات الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا عام 1994، كانت سبباً مباشراً في نشوب أشرس وأطول الحروب الأهلية التي شهدها شرق الكونجو، مؤدية إلى أكبر خسائر بشرية عرفتها تلك الدولة في تاريخها الحديث. وبالنتيجة فقد بلغ عدد قتلى النزاعات المدنية في الكونجو وحدها بين عامي 1994 و2004، نحو 4 ملايين شخص. وإذا ما أضيف إلى ذلك الرقم عدد القتلى في كل من رواندا وبورندي اعتباراً من عام 1994، فسيصل الرقم إلى 5.5 مليون قتيل، وهي حقيقة مروعة بحق. وإلى اليوم لا تزال تزهق أرواح نحو 38 ألف شخص شهرياً لأسباب لها علاقة بالنزاعات والحروب الأهلية. غير أنه لا يفيد النظر إلى ما يجري في كل واحدة من هذه الدول، بمعزل عن الإطار الجيوبوليتيكي العام للمنطقة بأسرها. ذلك أن هناك قوى إقليمية عديدة تسهم بنشاط فعال في تأجيج نيران النزاعات العرقية. فما أن تنطفئ النار هنا، حتى تسارع القوى الإقليمية نفسها إلى إشعالها في دولة أخرى من دول المنطقة. وأولى الكاتب اهتماماً كبيراً لعمليات الإقصاء والتهميش والاستقطاب السياسي الجارية في دول المنطقة، باعتبارها عنصراً أساسياً من عناصر إذكاء نيران النزاعات. وفي الإطار نفسه ناقش المؤلف ما أسماه بسياسات العنف العام في كل من رواندا وبورندي وجمهورية الكونجو الديمقراطية. ورغم أن البعض قد أطلق نعت "التوأمة الكاذبة" على دولتي رواندا وبورندي، محتكماً في ذلك النعت، إلى حقيقة أن المذابح الجماعية التي شهدتها بورندي في عام 1972، لم يبلغ مداها مطلقاً مدى حملات الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا في عام 1994، مع أن الضحية في كلتا الحالتين كانت هي قبائل الهوتو، وأن الطرف المفترس كان قبائل التوتسي، يقول الكاتب إن اختلاف البيانات الإحصائية لعدد القتلى في كلتا الحالتين، يجب ألا يحجب النظر إلى التشابهات المشتركة بينهما. بل إن ديناميات القتل نفسها سلكت طريقها عبر الحدود المشتركة مع جمهورية الكونجو. وهذه الأخيرة هي البؤرة الأشد اشتعالاً وسخونة الآن. عبد الجبار عبد الله ----------- الكتاب: ديناميات العنف في منطقة وسط أفريقيا المؤلف: رينيه ليمارشاند الناشر: مطبعة جامعة بنسلفانيا تاريخ النشر: 2008